من أكبر التحديات للأدب المعاصر في بلادنا أن يتم الترويج لأدباء محدودي الموهبة، مسطحي التفكير، لا يحسنون اللغة، ولا يتقنون غير الدعاية للسلطة، ومحاربة حقوق الإنسان في الحرية والكرامة والديمقراطية والشورى، والوقوف إلى جانب صندوق الذخيرة بدلا من صندوق الاقتراع، لذا يأتي ما يكتبون مفرغًا من نبضه الإنساني، وطعمه الخلقي، ونكهته البشرية. ما يكتبونه ضحالة وخواء وكراهية حاقدة تجاه الإسلام، وتملق رخيص للطوائف والأقليات، ودعاية فجة تصل حدّ البذاءة ضد الشرفاء، لا يذهب أثرها بعد طيّ صفحتها، وانتهاء وقتها..
لا تجدي عمليات النفخ النقدي، والتفسير الحداثي المفتعل لأصحاب المواهب الضحلة وكتاباتهم من عيّنة أن شفرة النص الذي يكتبه أحدهم تعني أنه ذو بعد كوني أنطولوجي في مرحلته الأولى، وله طابع معرفي إبستمولوجي في الثانية، ويتمتع بأساس إكسيولوجي في الثالثة، وله سمة كوزموبولوجية في الرابعة، وقوة ترانسندنتالية في الخامسة، وصفات فينومينولوجية في السادسة، وأيديولوجية في السابعة.. هذا الإيهام العبثي بالمصطلحات الغربية لا يصنع أدبًا حقيقيًا، ولا يمثل تجديدًا أو تحديثًا، فأي نص هذا الذي يحتاج إلى كل هذه المصطلحات التي تعني توصيف الوجود ونظرية المعرفة وعلم القيم العليا والمطلقة والكونيات وتجمع الجغرافيا والتاريخ والتسامي والتعالي وعلم الظواهر أو الظاهراتية أو المبدأ والعقيدة والمذهب؟ ما هذا النص الملغز الذي يحمل كل هذه الدلالات ويحتاج إلى تفسير عبقري؟ هل النص الذي كتبه كاتب شبه أمي لقراء معظمهم محدودي الثقافة والفكر يمكن أن نجد فيه كل هذه الحمولة الدلالية؟
دعاية وشهرة لا يستحقهما
سأقدم كاتبًا تم تصنيعه في فترة الستينيات ليكون مثقفا استعماليًا ويحظى بدعاية وشهرة لا يستحقهما، ولن أذكر اسمه لأن شخصه لا يعنيني، خاصة بعد أن أفضى إلى خالقه. الذي يعنيني هو تصنيعه ليكون معاديا للتصور الإسلامي، مواليا للاستبداد، مرحبا بالفكر الطائفي الانعزالي، استئصاليا لكل صوت يهتف باسم الله. ثم وهو الأهم أنه سيُمَكّن من منصة إعلامية ثقافية يستطيع من خلالها أن يستأصل الخصوم ويقرع الطبول وينقر الدفوف، ويثبت وجوده أمام من بيدهم الأمر.
سأسميه "العارف بالله"، وفقًا لتسمية السيدة زوجه، وهي تتغزل في مناقبه بعد رحيله بأعوام، وتهجو الإخوان المسلمين الذين منعوا علاجه كما تدعي، وتروي ما زعمت أنه تفاصيل معركة زوجها مع الجماعة بعد وصولها إلى الحكم عام 2012م، موضحة أنه قرر كتابة مقال يومي في جريدة "الأخبار" يحمل اسم "عبور"، فور تولى جماعة الإخوان حكم البلاد لفضح ممارسات هذه الجماعة.. ويا لها من جماعة طيبة تسمح لكاتب يعمل عندها بمحاربتها؟!!
لا أسخر من تسميته العارف بالله، فقد تكون تجليات الرحمة الإلهية قد هبطت عليه في أيامه الأخيرة فتاب إلى ربه وأناب، واستغفره مما فعله من قبل، ولكني أتحدث عن صورة الواقع التي خلفها أمام أعيننا نحن القراء والمتلقين. ورحمة الله واسعة، ولا يردُّ عن بابه مسترحِمٌ مستغفِرٌ.
لم يتوضأ.. ولم يدخل مسجدًا
أقدّر وفاء المرأة لرجلها شريطة ألا تعتمد على الأساطير التي تحوله إلى بطل مظلوم على غير الحقيقة، ولا مانع أن تؤكد أن زوجها لم يكن مجرد مشروع أصيل في الإبداع ولكنه كان مجرة إنسانية كبيرة وأن تطلق عليه لقب العارف بالله، وهو الذي لم يتوضأ ولم يدخل المساجد إلا عبر برامج تلفزيونية كانت عطية من السلطة التي يخدمها ضمن العطايا الكثيرة التي أغدقتها عليه طوال أربعين عاما أو يزيد، لقد دخل المساجد من أجل أن يتحدث فقط عن الآثار الإسلامية وهندسة المعمار والنقوش والتصميمات والأرابيسك.. إلى غير ذلك. لا مانع أن تقول الزوجة إنه أمير المؤمنين عمر إذا شاءت، لأن هناك من لهم رأي آخر، ولا يتقبلون ما تقوله لأنه ليس صحيحا.. أما أن تدعي أن الجماعة منعت علاجه فأمر غريب، لسبب بسيط وهو أن الجماعة لم تكن تملك من أمرها شيئا، فالحكومة العميقة كانت تهيمن على كل شيء تقريبا بما فيها المستشفيات المدنية والعسكرية، ثم إنه لم يكن مريضًا في زمن الإخوان، فقد كان عائدا من العلاج في مستشفى كليفلاند بأمريكا على نفقة الشعب المظلوم أو نظام مبارك، وظل سليما معافي يهاجم الرئيس المنتخب والجماعة وهو آمن، ولم يعاوده المرض إلا بعد رحيل الإخوان ودخولهم قعر مظلمة، واستشهاد كثير من قادتهم وأعضائهم في حملات ظالمة. فوصفهم بأنهم جيش احتلال وتنظيم أجنبي، وأنهم يملكون ميليشيات موازية، ودعا الجيش كي يحكم مصر لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وعدّ أتباعه ما قاله معركة قهرت الاحتلال الإخواني كما سماه! ووصفوه أنه رجل حرب ومحارب جسور لا يكل ولا يمل، يقاتل في أحلك الظروف وعبر جبهات قتال مختلفة قادها بكل قوة، لأنها ضد عدو يعيش على أرض مصر"!!
شيء سماه رواية
بدأ العارف بالله حياته عاملًا في أحد المصانع، فهو لا يملك غير مؤهل متواضع لا يجاوز الإعدادية، والمؤهل ليس شرطا لإثبات الوجود، فالعقاد لم يحمل من الشهادات غير الابتدائية القديمة ولكنه كان يفوق كثيرًا من حملة الدكتوراه والأستاذية.
اتجه صاحبنا العارف بالله إلى الأدب بكتابة شيء أطلق عليه اسم "رواية" ويقع في 42 صفحة، ويضم أشتاتًا غير مترابطة، بعضها توثيق حياته الشخصية، إضافة إلى بعض الأغاني الوطنية، وبعض النصوص التراثية من كتب التاريخ في العصر المملوكي. والمشكلة ليست في هذه الأشتات غير المجتمعات أو غير المنسجمات، وإنما في اللغة الركيكة، والأخطاء الفادحة في النحو والصرف والصياغة، فهي كتابة بعيدة عن الأدب والفن جميعا، ومع ذلك فقد وجد دراويش من بين الشيوعيين الذين ينتمي إليهم، وأشباه الشيوعيين الذين يبحثون عن الشهرة والمنفعة يقيمون له الموالد وحلقات الذكر، والتبشير به خليفة لنجيب محفوظ في القصة الرواية، ولأن العارف بالله كان قد اعتقل في منتصف الستينيات لبضعة أسابيع مع مجموعة من رفاقه، فقد خرج بعدها ليجد قيادة شيوعية ترأس مؤسسة صحفية كبرى يأخذ بيده ليعينه محررا بصحف المؤسسة ويتبناه بوصفه موهبة مبشرة، وأتاح له الظهور الإعلامي والثقافي ليكون مع رفاقه- كما زعموا- علامة على جيل الستينيات الذي قلب الموازين الأدبية وأعلن عن ميلاد جيل جديد يختلف عن جيل الرواد ومن جاء بعدهم.
هبوط المستوى الأدبي
كان هذا الجيل أو أفراده في مفهوم القيادات التي بشرت به ماركسيًا، واعتقل أعضاؤه ومن بينهم العارف بالله لمدة أسابيع كما سبقت الإشارة، يمثلون الحالة التي هبط إليها المستوى الأدبي بصفة عامة. والمفارقة أنهم كانوا أصدقاء لوزارة الداخلية! وكان أحدهم وهو من كتاب الأغاني المشهورين لا يكاد يغادر مكتب الإعلام في الداخلية، ويفخر بصداقته الدائمة لرئيسه على تتابع الوزراء، والمفارقة الأكثر طرافة أن أول مؤتمر أدبي لما سمي بأدباء الأقاليم الشبان انعقد في مدينة الزقازيق عام 1968م، كان برعاية وزير الداخلية الشهير شعراوي جمعة ورئاسته، وكان معظم حضوره من السادة الشيوعيين وأشباههم من أعضاء التنظيم الطليعي، الذين صاروا فيما بعد على رأس منصات وزارة الثقافة والصحافة ومنصات أخرى.
استطاع العارف بالله أن ينشئ علاقات عميقة مع القيادات العسكرية قبيل حرب رمضان من خلال تغطيته للعدوان الصهيوني على مدن القناة، وكتب تحقيقات عديدة عن الجنود لقيت اهتمامًا في الصحيفة التي يعمل بها، وتمت ترقيته إلى رئيس قسم بعد أن توطدت علاقته برؤسائه، وقيل إنه كان يكتب لبعضهم مقالاته التي يقوم قسم التصحيح بمراجعتها وتصويبها، وكان من الطبيعي مكافأته بإنشاء مطبوعة متخصصة من أجله ليرأس تحريرها، فقرّب إليه من يذيعون على موجته، واستئصال أصحاب الرأي والفكر المستقل وخاصة إذا كانوا مسلمين! وصار يتعامل مع زواره والواقفين على باب مكتبه بغطرسة وعجرفة واستعلاء.. أليس العارف بالله رئيسا للتحرير في الزمن المقلوب؟
مصدر خير معنويًا وماديًا
على كل حال، فقد أضحت المنصة المتخصصة مصدر خير عظيم للعارف بالله معنويًا وماديًا. استطاع من خلالها أن يوظف مجموعة كبيرة ممن يشتغلون في النقد الأدبي داخل مصر وخارجها ليكتبوا عن كتاباته تحت عناوين مختلفة ترفعها إلى السماء مع سطحيتها وخواء معظمها من الأفكار ذات القيمة الإنسانية، ومن ناحية أخرى كسب شهرة كبيرة انخدع بها كثير من الأكاديميين الذين اندفعوا بالدعاية الصارخة في مطبوعته وامتداداتها في أجهزة الدعاية المرئية والمسموعة والمقروءة إلى كتابة بحوث ورسائل علمية قيل إنها وصلت إلى ست وعشرين رسالة دكتوراه وماجستير، ولا أدري ماذا وجد الباحثون فيها، ولكن أحد الأكاديميين رأى أن أشهر ما يفخر به العارف بالله من روايات مأخوذ نصًا من ابن إياس وآخرين!
حاولت بقدر استطاعتي ان أتابع ما كتبه العارف بالله فوجدت أن ما يمكن أن نطلق عليه اسم رواية أو قصة لا يعدو أن يكون من قبيل النميمة في المؤسسة التي كان يعمل بها، ولا تحمل فكرًا أو رؤية إنسانية راقية، فضلًا عن الكتابات المستخلصة من كتب التاريخ في العصر المملوكي.. وأظن أن كتاب السيناريو الذين نقلوا كتاباته إلى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة هم أصحاب الفضل في تحويلها إلى شيء له قيمة!
أوسمة من عواصم تعادي الإسلام
استطاع العارف بالله أن يوظف المنصة لكي يحضر المؤتمرات الخارجية، ويوظف علاقاته مع من بيدهم المنح والمنع في دول العالم الاستعمارية ووكلائهم في المنطقة، وأن يجد من يترجم له أعماله الهشة إلى لغات أجنبية، وأن يحظى بعدها بأوسمة ونياشين من عواصم تكره الإسلام والمسلمين، ولها تاريخ أسود في نهب الشعوب الإسلامية وذبح أبنائها.. وما بالك بمن يشيد بهؤلاء الوحوش ويعدّهم مصدرا للاستنارة والحداثة على حساب دينه وقومه وحريتهم وكرامتهم؟ أليس من حقه أن يعلق أوسمة الفروسية والبطولة على صدره؟ يكفي أن تتحول الحملة الهمجية الدموية لنابليون التي قتلت سُبْع الشعب المصري إلى (علاقات ثقافية وتنوير) على منصة العارف بالله ومنصات رفاقه.
في المجال المادي فإن مطبوعة العارف بالله قربته من بعض الطغاة العرب الذين لم تكفهم متعة إذلال أوطانهم البائسة، ووضع أحذيتهم فوق رءوس شعوبهم، بل أرادوا الاستمتاع بلقب أديب وكاتب، وكان العارف بالله أحد الذين نالهم نصيب مادي كبير، سواء بكتابة بعض الروايات الركيكة التي نسبت إلى القائد البطل حارس البوابات الغربية والشرقية للأمة العربية، أو الكتابة عن مغامرات عسكرية دامية كلفت الشعوب العربية كثيرًا من الدماء والأموال والأسلحة التي انتهت إلى نتائج مؤسفة ليس أقلها الذل والعار والهزائم التاريخية!
البصمة الأدبية تؤكد
كان طبيعيًا أن ينفي العارف بالله جريمته، ولكن من يعرفون البصمة الأدبية يؤكدون بما لا يدع مجالًا للشك أنه وقف إلى جانب الطاغية الأرعن، وحظي بنصيب من المال غير قليل، ويبدو أن الانتقال من أعماق الأحياء الفقيرة إلى سكني الأحياء الأرستقراطية يستحق دهس القيم الرفيعة والأخلاق الكريمة التي يجب أن يتحلى بها من يمسكون بالقلم ويفترض أن يكونوا مثقفين من النوع الرسالي بالنسبة للمسلمين والعضوي بالنسبة للماركسيين أو الشيوعيين عمومًا.
ظل العارف بالله طوال ربع قرن يقف وحده على المنصة المتخصصة، يستمتع بالريع الذي تغدقه عليه ماديًا ومعنويًا، فضلًا عن نوع من الذكاء في استقطاب أفراد من ذوي المكانة في جهات عليا، يكتب عنهم ويروي قصصهم، وهو ما يناغي وترًا حساسًا في النفس البشرية بصفة عامة، فأيقن أنه مسنود ومتمكن وراسخ إلى الأبد في مكانه الذي توسع فوصل إلى الشاشات والموجات والصفحات داخل البلاد وخارجها بمقابل ليس قليلًا، لدرجة أنه واجه وزيرًا مقربًا من السلطة حين منع الإعلانات التي تنشرها الوزارة في مطبوعته، فطرح في محاولات الصلح بينهما أن يتولى منصبًا مرموقًا في إحدى مؤسسات الوزارة المهمة، ولكن الوزير كان أقوى!!
تعيين البديل.. وبقاء الامتيازات
جاءت ثورة يناير الموءودة، فغيرت رؤساء المؤسسات الصحفية، وهرب بعضهم إلى الخارج بدعوى العلاج أو نحوه، وجاء آخرون، فأحدثوا تغييرات في مؤسساتهم، وكان طبيعيًا تعيين بديل للعارف بالله بعد ربع قرن في منصبه، مع بقائه بامتيازاته السابقة في المؤسسة وفرصة الكتابة اليومية، وعضوية التشكيلات النقابية والتحريرية، وبقاء صبيانه وتلاميذه في مواقعهم الموالية له. ولكن هذا لم يرضه، فأشعل الحرب ضد الإخوان متوهمًا أنهم يحاربونه لأهميته السياسية، وأظنه- ولست مدافعًا عن الإخوان فهم أقدر على الدفاع عن أنفسهم- لم يضعوه وأمثاله في أذهانهم لسبب بسيط، وهو انشغالهم بحملات إفشالهم وتشويههم والتخلص منهم، والدليل على ذلك أنه كان يهاجمهم ويهاجم الرئيس المنتخب ولا يصيبه أذى أو مكروه، ويعود مطمئنًا إلى مسكنه الفخم، ويسعد بزوجه التي وصلت إلى منصب رئيس تحرير بمرتب ضخم في إحدى المطبوعات بأعرق المؤسسات الصحفية، وينظر بمتعة إلى ولديه اللذين ذهبا للدراسة في أمريكا، وتم تعيينهما في بعض المؤسسات التي يطلق عليها سيادية بعائد مريح وجاه كبير، وهو ما ينسيه نشأته المتواضعة.
دعاية لم يحظ بها الكبار
ثم إنه بعد طيّ صفحة الثورة، وانقطاع الأمل، عاودته المتاعب الصحية، فاهتمت به السلطة ونقلته إلى أفخم المستشفيات، وزاره كبار المسؤولين، حتى لقي ربه، وتم توديعه بدعاية لم يحظ بها طه حسين ولا العقاد ولا توفيق الحكيم، حتى كتّاب السلطة الكبار لم ينالوا هذا الوداع!
هناك نماذج كثيرة للمثقف الاستعمالي، أدت وما زالت تؤدي دورها، في نشر السطحية والتفاهة، وخدمة أغراض أخرى غير أدبية، والهبوط إلى درك سحيق من السوقية والابتذال باحتضان القيم المادية الرخيصة والترويج لها بوصف ذلك حرية تعبير وحرية فكر.
*نقلا عن "المجتمع" بتاريخ 6 يناير 2021