هل حقًا فشلت ثورة يناير في مصر؟ يشتعل السؤال في الرؤوس، ويشعل المنتديات ومنصات التفاعل بالاشتباك والجدل، لمناسبة مرور حقبة كاملة على هذه الثورة.

بعد عشر سنوات، تبدو الثورة مهزومة ومكسورة ومثخنة بالجراح، فهي لم تصمد أكثر من عامين في مواجهة حرب ضروس شنها تحالف القتلة والأوغاد في الخارج والداخل، حتى انتهى الأمر باختطاف الرئيس الذي أوصلته إلى السلطة، منتخبًا بنزاهة، ثم سجنه وقتله.

بعد عشر سنوات، كل من استمسك بعروة الثورة شهيد أو سجين أو مطارد في المنفى، أو مفروض عليه السكوت، أو مجبر على الكلام بما لا يعتقد أو يقتنع.

بعد عشر سنوات، يصنفون الثورة تهمة، وأحيانًا جريمة، وغالبًا مؤامرة على البلاد والعباد، يشوّهونها في مناهج التعليم، وفوق منابر المساجد، وفي عظات الكنائس، ويلقون بها في أفران غاز الإعلام الساقط كل ليلة، على الرغم من أن دستور الذين اغتالوها لا يزال يسميها ثورة.

لكن هذه السنوات العشر، وكل هذه الضربات، لم تنتزع الثورة، لا من أحلام المؤمنين بها، ولا من كوابيس الخائفين منها، كما لم تنجح في محو آثارها الظاهرة على الحياة في مصر.

معنويًا وقيميًا، لا يصحّ أن يقال إن ثورةً أسقطت حاكمًا ضرب بجذور استبداده في عمق السلطة ثلاثين عامًا، قد فشلت، إذ يكفي أبناءها فخرًا وإيمانًا بجدارتها الإنسانية والوطنية، أنها كانت ثورة حقيقية، وإرادة شعبية خالصة في التحرّر من ذلك الذي تريده إسرائيل، ويحبه الفساد، ويعض عليه الاستبداد بالنواجذ، وعبورًا إلى شاطئ الحرية.

على الأرض، وبالمقاييس المحسوسة للانتصارات، فإن نجاح ثورة يناير في عبور جسر قصر النيل، يوم الثامن والعشرين من يناير/ كانون الثاني، ودخول ميدان التحرير، يمثل واحدة من أصعب المعارك البطولية وأشرفها في تاريخ الشعوب.

أتذكر ذلك اليوم جيدًا، حين كنت مجرّد رقم بين عشرات الآلاف المصريين، من مختلف الفئات والطبقات والشرائح العمرية، نحاول معًا أن نجترح معجزة عبور نهر النيل من الجيزة إلى القاهرة، لكي نصل إلى التحرير.

كان الذاهبون إلى العبور يحملون الحب لمصر وللجنود المكلفين بقمعهم، ويوزّع بعضنا عليهم زجاجات المياه والورود أحيانًا، لكن ذلك كله قوبل بالعنف الوحشي، حتى صرنا نواجه الموت اختناقًا بالغاز أو قتلًا بالرصاص على مدار ساعات مرت على الجميع كأنها دهر، ونحن محاصرون بقوات الأمن والمصفحات والأسلحة والذخائر، من دون أن يتخلّى الجميع عن الحلم بالتحرير، إلى الحد الذي تحدّى فيه شبان وشابات بأجسادهم جنازير المدرعات وجنون القصف بقنابل الغاز والخرطوش.

كانت ملحمة بطولية انتهت بالانتصار على العجز والخوف واليأس، قبل أن تكون انتصارًا على البطش والقمع وإجرام السلطة .. كانت صعودًا إلى التحرير، المكان والغاية، ليحلّ المساء وقد نجحت حشود الثوار المليونية في "تحرير ميدان التحرير" من قبضة قوات أمن الحاكم المستبد.

كان عبورًا للنهر إلى حيث الكرامة الإنسانية في التحرير، مثلما كان العبور للقناة قبل ذلك بنحو 38 عامًا إلى حيث الكرامة الوطنية في سيناء، وهو ما أذهل الجميع، بمن في ذلك الذين عبروا في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فأسرعوا لمد جسور الود معه والتمسّح فيه وادعاء شراكة معه، كانت شراكة الذئاب للحملان، التي انتهت بالتهام أصحاب النيات الطيبة.

خلعت الثورة حسني مبارك، وألغت حزب ابنه من الوجود، وأنعشت حلم المصريين بالعدل والحرية والتوزيع العادل للثروة والاغتسال من علاقة قذرة مع العدو الصهيوني، وهي القيم والعناوين التي استقرّت في أذهان ووجدان من كانوا أطفالًا يصحبهم آباؤهم وأمهاتهم إلى ميادين الثورة، خلال 18 يومًا هي الأنصع والأنقى والأبقى في ذاكرة الكفاح الشعبي، على نحوٍ لا يقل عن ملاحم المصريين التاريخية بمواجهة الاحتلال في القرن الماضي، ومعاركهم الخالدة في بورسعيد 1956 والسويس 1973.

حتى لو كانت المآلات المؤقتة أوضاعًا هي النسخة الأسوأ والأعنف من حكم مبارك، فإن ذلك لا يعني أن ثورة يناير فشلت أو انتهت أو ماتت، بل هي قائمة وماثلة وتعافر، وتجد معالمها في حشرجة صوت عبد الفتاح السيسي المرتعبة كلما تناولها بالحديث، مكرّرًا عباراته الخرقاء، المقتبسة من أساطير توراتية عن التي "عرّت كتفها. وكشفت ظهرها"، والتي يرددها كل من كان في قلبه مرض وفي صدره كراهية للحرية والكرامة الإنسانية.

لم تفشل ثورة يناير ولم تمت بعد، بدليل أنه على مدار عشر سنوات من عمرها يتم طرح السؤال نفسه مجددًا: هل فشلت ثورة يناير؟

كل عام ويناير باقية في القلوب، وتنتظر طرح السؤال المكرّر في العام المقبل.

نقلا عن "العربي الجديد"