الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير رحمه الله، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا".

وفي رواية عند الإمام مسلم أيضًا، قال عروة: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيم بْنِ حِزَام عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا".

وفي رواية عند مسلم قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَخُلُّوا، وفي رواية رابعة عند مسلم: أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ وَجَدَ رَجُلاً وَهُوَ عَلَى حِمْصَ يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا".

في ضوء هذا الحديث برواياته المتعددة؛ نستعرض النقاط التالية:

أولاً: نهى الإسلام عن تعذيب البشر لبعضهم في غير حق، ووجوب إنكار ذلك هذا الحديث الجليل يذكر فيه سيدنا هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه رأى قومًا من النَّبَط أو من فلاحي بلاد الشام من العجم من غير المسلمين، وقد تأخروا عن أداء الجزية، فأخذهم الوالي يومئذٍ وأقامهم في حَرِّ الشمس، وصبَّ على رءوس بعضهم الزيت نَكالاً وتعذيبًا، فلما رأى هشام رضي الله عنه ذلك لم يتمالك نفسه أن بيَّن الحكم الشرعي في هذا الفعل القبيح المستقبح أصلاً وشرعًا؛ فإن الوالي إذا اعتبر تعذيب الناس هو السبيل إلى أداء الحقوق، كان بذلك معذِّبًا نفسًا بغير حق.

وكان هشام بن حكيم رضي الله عنه إيجابيًّا؛ حيث لم يسكت حينما رأى هذا الظلم، إنما ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تحرك حتى ذهب إلى عمير بن سعد فأبلغه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عمير بن سعد بهؤلاء الناس فحلوا.

وتكرر هذا من حكيم بن حزام مرة أخرى؛ حين رأى عِيَاض بن غَنْم، وهو صحابي جليل يفعل ذلك مع أهل حمص من غير المسلمين، وهو يُشَمِّسهم أو يقيمهم في الشمس، ويبدو أن ذلك كان من صور النكال والعقوبة لمن يخالف أمر الولاة.

 

فقد أخرج ابن حبان وغيره في صحيحه أن هشامًا وجد عياضًا وهو على حمص شَمَّس نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هشام: ما هذا يا عياض؟ فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا".

 

وفي رواية: أنه رأى عياض بن غَنْم يفعل ذلك بصاحب داريا- أي الوالي الذي كان على داريا من قِبَل الروم- فلم يقبل سيدنا هشام بن حكيم إذ رأى هذا المنظر غير الإنساني وغير اللائق أن يسكت على هذه الجريمة، ومن َثَّم تحرك وأَعْلَمَ فاعلَ هذا بلعنة الله ورسوله، وبما يستحقه من عذاب حينما يلقى اللهَ تبارك وتعالى.

وهكذا نرى الإسلامَ الحنيفَ واضحًا كلَّ الوضوح في النهي عن تعذيب الناس بغير حق، سواءٌ كان هذا التعذيبُ لإجبارهم على اعتناق شيءٍ، أو لإكراههم على فعل شيءٍ، بل اعتبر الإسلامُ الضغطَ والإكراهَ بالتعذيب عملاً مشينًا يُعَرِّض فاعلَه لعذاب الله يوم القيامة كما في الحديث.

ثانيًا: عقاب المجرم بالعقوبة الشرعية لا يُعَد تعذيبًا؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا" محمول على التعذيب بغير حق، فلا يُعَد عقاب المجرم بالعقوبة الشرعية تعذيبًا، فرجم الزاني أو جلده أو جلد شارب الخمر أو قطع السارق؛ هذا لا يسمى تعذيبًا، بل عقابٌ شرعيٌّ، فهذا لا يدخل في الحديث معنا؛ إنما المقصود التعذيب بغير حق، أي العقوبة بغير عقوبة شرعية، كأن يضع الإسلام عقوبة شرعية لفعل ما، فيتجاوز الناس ويسيئون ويزيدون في العقوبة عليها.

ولذلك لما شرح هشام بن حكيم ذلك لعمير بن سعد، قام على الفور بإخلاء سبيل هؤلاء الناس وعدم تعذيبهم.

هذا المنهج الإسلامي الأصيل أمر يجب أن يكون واضحًا لدى كل من يتحدث عن الإسلام أو يعمل بالإسلام؛ فإن الأصل الأصيل الذي تقوم عليه رعاية الوالي هو الرفق بالرعية، وهو الركن الركين وهو الأصل والمهمة الأساسية للحاكم والراعي.

ثالثًا: الرفق بالأمة من رضا الله تعالى على الراعي والرعية: قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ".

والنبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدعو للرفيق بأن يعامله الله تبارك وتعالى بمثل عمله، أي يفعل به ما فعل بعباده من الرفق مجازاةً له بمثل فعله، وهذا دعاءٌ مستجابٌ؛ لأنه لا يشك عاقل في حقيقة استجابة الله تعالى لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا يرتاب عاقلٌ في أنه كلما مرَّ على الناس والٍ أو أميرٌ ذو عَسْفٍ وعَنَتٍ وجَوْرٍ وظلمٍ يعامل الناس بالعتو والاستكبار إلا كان آخرُ أمره الوبالَ وانعكاسَ الأحوال، ولو لم يُعاقَبْ بذلك في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يعاقبه على ذلك يوم القيامة في سَقَرَ وبئس المستقر! وهذا من أبلغ الزجر عن المشقة على الناس أو تعذيب الناس، ومن أبلغ الحث على الرفق بعموم الرعية، وهو ما تظاهرت عليه الأدلة وجاءت به الأحاديث، فالظلم مرتعه وخيم، وعاقبته وبال على الظالمين، ولهذا قال الحكماء: الظلم لا يدوم وإن دام دمَّر، والعدل لا يدوم وإن دام عَمَّر.

وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..." إلى آخر الحديث، والرعاية تعني العناية والشفقة، مثلما يفعل الراعي الشفوق بمن تحت يده، وأخرج مسلم عن عائذ بن عمرو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ" أي الذي يسوق الناس سوقًا عنيفًا، ويأخذهم بالعنت والظلم.

بل يبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أمراؤنا من الصنف الرفيق؛ بسعادة الدنيا والآخرة، وإن تولى أمرنا ذلك الصنف من الرعاة الحطمة؛ فإن ذلك سبب من أسباب الشقاء.

أخرج الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ؛ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ؛ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا"، وأخرج أبو داود كذلك في مراسيله عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا، وَلَّى أَمْرَهُم الحُكَمَاءَ وَزَادَ الَمالَ عِنْدَ السُّمَحَاءِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ شَرًّا، وَلَّى أَمْرَهُم السُّفَهَاءَ وَزَادَ المَالَ عِنْدَ الْبُخَلاءِ".

لذلك كان من سياسة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يرفق بالناس، وأن يدعو الراعي إلى الرفق، بل ينهاه عن الاحتجاب عن قضاء مصالح الناس، فذلك لون من ألوان التعذيب، فليس التعذيبُ تعذيبًا بدنيًّا فقط؛ بل من ألوان التعذيب: أن يشقَّ على الناس، ولا يستطيعَ المظلومُ أن يبلغَ مظلمتَه، ولا أن يأخذَ حقَّه ولا أن يُنْتَصَف له.

أخرج أبو داود أَنَّ أَبَا مَرْيَمَ الأَزْدِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ أَبَا فُلاَنٍ! وَهِي كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ" قَالَ: فَجَعَلَ- أي معاوية- رَجُلاً عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ.

رابعًا: الإقساط والإحسان والعدل أوقع أثرًا من الظلم والجور: إن الإقساط إلى الرعية والإحسان إليهم من أسباب رحمة الله جل وعلا، وإن الظلم للرعية والشدة عليهم والجور عليهم من أسباب سخط الله تبارك وتعالى.. أخرج مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا".

وخير الأئمة مَن أحبته الرعية لرفقه، وشرُّ الأئمة مَن كرهته الرعية لشدته وعسفه وظلمه؛ فقد أخرج مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ (أي تدعون لهم ويدعون لكم)، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ".

وأخرج مسلم من حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ" وهكذا كان الناس في العصر الأول، وكان الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.

خامسًا: مِن أرقى نماذج العدل في الإسلام: هذا الخليفة العادل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه- فيما رواه أبو داود- قام فخطب الناس، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلاَ لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، (زاد في رواية: ولكني أبعثهم ليعلِّموكم دينَكم وسننَكم ويعدلوا بينكم، ويقسموا فيكم فيْأَكم) فَمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ أَقُصُّهُ مِنْهُ"، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ أَتَقُصُّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: "إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقُصُّهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَصَّ مِنْ نَفْسِهِ".

بل يقول رضي الله عنه (فيما أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم): "أيها الناس إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ ينزل الوحي، وإذ نبأنا من أخباركم، ألا وإن النبي صلى الله عليه وسلم  قد انطلق ورُفع الوحي، وإنما نعرفكم بما أقول لكم، ألا ومن يُظهرْ منكم خيرًا ظنَنَّا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن يُظهر منكم شرًّا ظنَنَّا به شرًّا وأبغضناه عليه".

إذًا؛ فهو يعامل الرعية بظاهر الأمر، ولا يأخذهم بالنوايا، ثم يقول: "سرائركم فيما بينكم وبين ربكم" ثم يقول موجهًا كلامه للأئمة والولاة: "ألا لا تضربوهم فتُذِلُّوهم، ولا تمنعوهم حقهم فتكفِّروهم، ولا تجبروهم فتفتنوهم، ولا تنزلوهم الغِياض فتضيعوهم" (والغياض: جمع غَيْضة، وهي الشجر الملتَفّ؛ لأنهم إذا نزلوها تفَرّقوا فيها، فَتَمَكَّن منهم العَدوّ).

وهو يبين لك كيف يكون منهج الإسلام في حماية الرعية وفي الرفق بها.

وهذا المنهج نفسه هو الذي سلكه الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقد ولَّى اثنين من ولاته شيئًا من أمور العراق، فكتبا إليه: إن الناس لا يصلحهم إلا السيف، فكتب إليهما يقول: خبيثين من الخبث، رديئين من الرديء تعرضان عليَّ بدماء المسلمين، ما أحد من الناس إلا دمكما أهون عليَّ من دمه.

يرفض هذه الطريقة من الأخذ بالشدة وبالقسوة وبالتعذيب، ويذكر لهما أن هذا من الخبث الذي لا يقبله ولا يرضاه.

بل إنه ولى الموصل رجلاً من ولاته، فوصل الرجل إلى الموصل فإذا هي من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا، فكتب الرجل إليه يعلمه حال البلاد ويسأله: هل آخذهم بالظنة وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبيِّنة وما جرت عليه السنة؟ فكتب إليه: خذ الناس بالبيِّنة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله.

يقول هذا الوالي: ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقًا ونهبًا.

الرجل- من وجهة نظره- أنه لو طبق الأحكام الشرعية، ولم يأخذ الناس بالظنة، ولم يضربهم على التهمة حتى يعترفوا ويتبين الحق؛ ربما ذهب المجرم بجريمته ولم يستطع القاضي الوصول إلى الحق، وربما تجرأ الناس على الفساد، وهذا منطق فاسد.

وهذه قصة نُهديها إلى الذين يتصورون أن هيبة الدولة وأن حفظ الأمور لا تأتي إلا بالشدة وبأخذ الناس بالظنة والتهمة، وتجهيز التهم للمعارضين، والاعتقال التعسفي للخصوم السياسيين، فهذا بيان عملي يؤكد أن أخذ الناس بالحق وعدم أخذ الناس بالتهمة هو السبيل إلى حفظ الأمن والنظام.

سادسًا: التعذيب المفضي إلى القتل قتل عمْد: وإذا كان الإسلام- أيها الأحبة- قد حرم تعذيب النفس البشرية بغير موجب شرعي حتى لو كانت غير مسلمة، وحتى لو كانت متعدية، كما رأينا في الحديث، حيث يرفض تعذيب الذين يتأخرون في أداء الجزية، فكيف إذا كان التعذيب واقعًا على الصالحين والمصلحين، لمجرد المخالفة في الرأي؟ كيف إذا قام الحاكم أو الأمير أو الإمام بتعذيب مَنْ خالفوه في الرأي؟ ومَن عارضوه في مسلكه ومنهجه؟ وكيف لو أدى هذا التعذيب إلى القتل؟

لا شك أن من عذَّب نفسًا بغير حق حتى أدى هذا التعذيب إلى القتل، فهو في حكم الشرع قاتلٌ آثمٌ، ويُعَد قاتلاً قتلَ عمدٍ وداخلاً في الوعيد الشرعي في قول الله تعالى ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)﴾ (النساء).

كيف وقد أخبر الشارع عن امرأة أُدخلت النار بسبب هرة عذبتها، فقد أخرج صحيح البخارى (ج 8/ ص 462) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، قَالَ: فَقَالَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"، هذا فيمن عذب حيوانًا، فكيف بمن عذب إنسانًا؟ فكيف بمن عذب مسلمًا؟ فكيف بمن عذب تقيًّا؟ فكيف بمن عذب مصلحًا؟

الذي يفعل هذا مستحقٌّ للعنة الله ولغضب الله ولعذاب الله، وهو في الدنيا يعاقَب معاقبة قاتل العمد، ويجب القصاص منه حسبما أتت به أحكام الشريعة، ويستوي في ذلك القائم بالتعذيب والآمر به، فهم جميعًا شركاء في هذه الجريمة.

وحسنًا فعلت الأمم المتحدة- وما أقل حسناتها- حينما اعتبرت جريمة تعذيب الناس بغير حق من الجرائم ضد الإنسانية، وأعطت كلُّ دول العالم على ذلك عهودَها ومواثيقَها بمنع هذه الجريمة، وملاحقة فاعليها، واعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم، وأيًّا كانت مواقع ومواضع الذين يقومون بها، فكل قوانين الدنيا وكل دساتير الدنيا جاءت لتؤكد هذه النظرة الإسلامية والتي جاء الإسلام من قبلها بأمدٍ بعيدٍ ليؤكد حرمة النفس الإنسانية، وعدم جواز تعذيبها بغير موجب شرعي.

أسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا، وأن يرزق الأمة والأئمة الصلاح والإصلاح، وأن يهدي الأمة والأئمة، وأن يصلح الرعاة والرعية، وأن يؤلف بين قلوبهم في الخيرات، وأن يدفع شر بعضهم عن بعض، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

*عميد كلية أصول الدين وعضو مكتب الإرشاد فك الله أسره