ثمة حاجة أخرى إلى الدين: حاجة تقتضيها حياة الإنسان وآماله فيها: وآلامه بها... حاجة الإنسان إلى ركن شديد يأوي إليه، وإلى سناد متين يعتمد عليه، إذا ألمت به الشدائد، وحلت بساحته الكوارث، ففقد ما يحب، أو واجه ما يكره، أو خاب ما يرجو، أو وقع به ما يخاف. هنا تأتي العقيدة الدينية، فتمنحه القوة عند الضعف، والأمل في ساعة اليأس، والرجاء في لحظة الخوف، والصبر في البأساء والضراء، وحين البأس.

إن العقيدة في الله وفي عدله ورحمته، وفي العوض والجزاء عنده في دار الخلود؛ تهب الإنسان الصحة النفسية والقوة الروحية، فتشع في كيانه البهجة، ويغمر روحه التفاؤل، وتتسع في عينه دائرة الوجود، وينظر إلى الحياة بمنظار مشرق، ويهون عليه ما يلقى وما يكابد في حياته القصيرة الفانية، ويجد من العزاء والرجاء والسكينة ما لا يقوم مقامه، ولا يغني عنه علم ولا فلسفة، ولا مال ولا ولد، ولا ملك المشرق والمغرب.

ورضي الله عن عمر إذ قال: «ما أصبت بمصيبة إلا كان لله علي فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني ... وأنها لم تكن أكبر منها ... وأنني لم أحرم الرضا عند نزولها ... وأنني أرجو ثواب الله عليها»(1).

أما الذي يعيش في دنياه بغير دين، بغير إيمان، يرجع إليه في أموره كلها - وبخاصة إذا ادلهمت الخطوب، وتتابعت الكروب، والتبست على الناس المسالك والدروب - يستفتيه فيفتيه، ويسأله فيجيبه، ويستعينه فيعينه، ويمنحه المدد الذي لا يغلب، والعون الذي لا ينقطع - الذي يعيش بغير هذا الإيمان - يعيش مضطرب النفس، متحير الفكر، مبلبل الاتجاه، ممزق الكيان، شبهه بعض فلاسفة الأخلاق بحال «رافياك» التعس. الذي يحكون عنه اغتال الملك، فكان جزاؤه أن يربط من يديه ورجليه إلى أربعة من الجياد، ثم ألهب ظهر كل منها، لتتجه مسرعة إلى جهة من الجهات الأربع، حتى مزق جسمه شر ممزق!

هذا التمزق الجسمي البشع مثل للتمزق النفسي الذي يعانيه من يحيا بغير دين، ولعل الثاني أقسى من الأول وأنكر في نظر العارفين المتعمقين، لأنه تمزق لا ينتهي أثره في لحظات، بل هو عذاب يطول مداه، ويلازم من نكب به طول الحياة.

ولهذا نرى الذين يعيشون بغير عقيدة راسخة يتعرضون أكثر من غيرهم للقلق النفسي، والتوتر العصبي، والاضطراب الذهني، وهم ينهارون بسرعة إذا صدمتهم نكبات الحياة، فإما انتحروا انتحارًا سريعًا، وإما عاشوا مرضى النفوس، أمواتًا كالأحياء! على نحو ما قال الشاعر العربي قديمًا:

ليس من مات فاستراح بميت  **  إنما الميت ميت الأحياء!

إنما الميت من يعيش كئيبًا  **  كاسفًا باله قليل الرجاء!

وهذا ما يقرره علماء النفس وأطباء العلاج النفسي في العصر الحديث. وهو ما سجله المفكرون والنقاد في العالم كله.

يقول المؤرخ الفيلسوف «أرنولد توينبي»:

«الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئًا»(2).

ويقول الدكتور «كارل بانج» في كتابه «الإنسان العصري يبحث عن نفسه»: «إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية، من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، ونزعزع عقائدهم، ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم»(3).

ويقول: «وليم جيمس» فيلسوف المنفعة والذرائع: «إن أعظم علاج للقلق - ولا شك - هو الإيمان».

ويقول الدكتور «بريال»: «إن المرء المتدين حقًا لا يعاني قط مرضًا نفسيًا».

ويقول «ديل كارنيجي» في كتابه «دع القلق وابدأ الحياة»: «إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض».

وقد أفاض الدكتور «هنري لنك» في كتاب «العودة إلى الإيمان» في بيان ذلك والتدليل عليه بما لمسهوجربه من وقائع وفيرة، خلال عمله في العلاج النفسي(4).

.........................

*من كتاب «الدين في عصر العلم» لفضيلة الدكتور.

(1)انظر موضوع «الثبات في الشدائد» من كتابنا «الإيمان والحياة»، وكذلك موضوع «القوة» - طبع - مؤسسة الرسالة ببيروت، ومكتبة وهبة بالقاهرة.

(2) «مختصر دراسة التاريخ» (3/179).

(3) انظر : كتاب «الإسلام يتحدى» (ص281).

(4) انظر: فصل «بين العلم والإيمان» من كتابنا «الإيمان والحياة» وبخاصة ما كتب تحت عنوان: «الطب النفسي في موكب الإيمان».