صدرت مؤخرا دراسة بعنوان "جدوى الحراك الشعبي العربي وأثره على الاستقرار والتغيير السياسي". وحاول المؤلف، الدكتور محمد نجيب بوليف الخبير في الاقتصاد، ووزير الشئون العامة في حكومة عبد الإله بن كيران وكاتب الدولة السابق، المكلف بقطاع النقل في حكومة سعد الدين العثماني، أن يستفيد من المساحة الزمنية في الرصد والتحليل لحركة الاحتجاجات العربية، وأخضع ثلاثة نماذج لمشرحة التحليل، مستعينا بخبرته في مجال الاقتصاد، وموظفا عددا من المعطيات الإحصائية والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، لتقديم نموذج تفسيري.

من الجوانب المهمة التي انتهى إليها الباحث في خلاصاته، هو تجذر الثورات العربية، وأن الأسباب والظروف بررتها (تفشي الفساد، وضعف الحكامة، وتدهور الاقتصاد، وتراجع الخدمات الاجتماعية والمستوى المعيشي، وبطء الإصلاحات الحقوقية، واستمرار التضييق على حرية الرأي والتعبير، واختناق المناخ الديمقراطي، وتصاعد الفوارق الاجتماعية مع ضعف العدالة الاجتماعية، وعدم جدوى العمليات الانتخابية، إضافة إلى المخلفات الظاهرة والخفية لجائحة "كوفيد 19 " حالا ومستقبلا) لا تزال قائمة، بل تزيد من تعميق الأزمة العامة...

وقلل المؤلف من الآليات والوسائل التي اعتمدت عليها الأنظمة لوأد أو استيعاب الموجة الأولى من الربيع العربي، ويعتبر أن تفادي الموجات القادمة يستدعي التفكير الاستباقي في تجديد العقد الاجتماعي بانفتاح الأنظمة السياسية على مواطنيها وبذل الجدية في محاربة الفساد وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والتخفيف من وطأة الفقر والبطالة، وأن الإبقاء على العقد الاجتماعي الذي صيغ في الحقبة الاستعمارية، أو ما بعدها مباشرة، لن يكون فعالا.

وقرأ المؤلف انطلاق الموجات الثانية من الحراك من هذه الزاوية، فسلوك بلدان الموجة الأولى من الحراك، هو الذي شجع بلدانا عربية أخرى على الانخراط في الموجة الثانية من الربيع العربي لعلها تكون أوفر حظا من الأولى.

ومن النتائج التي خلص إليها المؤلف في دراسته أن التغيير الذي تتطلع إليه الشعوب والتعبيرات الاحتجاجية لا يمكن أن يتحقق إلا في سياق تراكمي، كما أن التغييرات السطحية، كمجيئ رئيس "صوري" مكان آخر، أو تعديل الدستور بما يتلاءم مع الوضع، أو إجراء "روتوشات" إصلاحية خفيفة، أو تعديل حكومي مدمج لبعض فئات المحتجين، لا يمكن أن يحقق أي إصلاح سياسي، فضلا عن أن يقدم جوابا نهائيا للحراك العربي.

وسجل المؤلف بإيجابية حصول بعض التغيرات الاجتماعية المعبرة التي شملت مختلف مناحي الحياة، توضحها الأرقام والمعطيات الإحصائية الكمية المرتبطة بحجم ومستوى التواصل الاجتماعي، وكذا صيغ الترابط الأسري والمجتمعي، وطريقة وآليات الخطاب، والاستقراءات الكيفية والمطالب والشعارات المرفوعة من طرف المحتجين.

وفي خلاصاته أيضا سجل ظاهرة أخرى ترتبط من جانب بـ"إجبار" الحكام على رفع سقف الحريات والسماح بهامش أكبر للتحرك والتعبير، ومن جانب آخر بارتفاع سقف المطالب والشعارات من جهة المحتجين...وهكذا أصبح تبني مطالب الإصلاح ومحاربة الفساد والمفسدين والتعبير عن المطالب الحياتية لعموم المواطنين أو لفئات معينة يتم من خلال اعتماد ثقافة الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات السلمية، بتجلياتها المتعددة والمختلفة.

الثورات الناجحة

ورصد المؤلف أيضا في خلاصاته ضعف مؤسسات الوساطة، من أحزاب سياسية ونقابات وتمثيليات مهنية ومؤسسات المجتمع المدني، في تصريف الاحتجاجات وتأطيرها ميدانيا، بحيث تبرز في غالب الحالات قيادات ميدانية، مستعملة بكثافة الوسائط الاجتماعية للدعوة للاحتجاجات واستفادته من ارتفاع مستوى المتابعة والتغطية التي أصبحت آنية، والتمكين الفوري والآني لكل بقاع العالم من معرفة ما يجري خلال فترة الاحتجاجات، مما يصعب من المهمة "القمعية" التي قد تلجأ إليها بعض الأجهزة الأمنية في البلدان التي تعرف ذلك.

وتوقف المؤلف عند ما أسماه بتحقيق الأهداف الحراكية، ويرى أنها رهينة بتفاعل عدد من المؤثرات منها، طبيعة أنظمة الحكم (رئاسية، أنظمة وراثية هجينة، ملكية وراثية)، فكلما كانت الأنظمة السياسية العربية أقرب للرئاسية، كلما كان أمر تغيير الحراكات للأنظمة ممكنا، لكن بنسب متفاوتة مرتبطة بمستوى نضج المجتمعات وتدخل الأسباب الأخرى الرئيسية في عمليات التغيير، ومنها دور الأجهزة الأمنية والعسكرية، فضلا عن موقف الهيئات المساندة أو المناهضة، ومستوى التدخل الخارجي.

فالثورات الناجحة، حسب المؤلف، هي التي تنبثق من الشعب وينخرط فيها غالبيته، وتستطيع استقطاب المكونات المجتمعية الرئيسية صاحبة القرار في البلد، ثم تتمكن من الحصول على دعم مختلف الأطياف الداخلية وبعض الدول الخارجية، وتكون في نفس الوقت "موافقة" لهوى (قبلي أو بعدي) الأجهزة الأمنية (الجيش والعسكر)، أو سهلة التسليم لهم بقيادة البلد بعد إنجاز الثورات.