أرجى آية عند العلماء بعد الصحابة

إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد تتبعوا آيات الرجاء في القرآن، كما رأينا في الدرس السابق؛ فإن علماء الأمة قد ساروا على ذات الدرب الكريم، فأضافوا إليهم الكثير الطيب الذي يبعث في النفوس الرغبة في تدبر كتاب الله وحسن الوقوف مع إشاراته الهادية الملهمة، ومما جاء في هذا الباب:

(1)              

أخرج ابن أبي شيبة عن أبي عثمانَ النَّهْدِي، قال: «مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي لِهَذِه الْأُمَّةِ مِنْ قَوْلِه ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾».

(2)              

أخرج أبو نعيم عن جَعْفَرَ الصَّادِقِ، وهو ابْنِ مُحَمَّدٍ بن عَلِيٍّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم قَالَ: «إِنَّكُمْ تَقُولُونَ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ العِرَاقِ: إِنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾. لَكِنَّا أَهْلَ البَيْتِ نَقُولُ: إِنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ».

وعند الدينوري في المجالسة زاد: «فَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ النَّارَ».

(3)              

أخرج مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: «﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ».

وهو يقصد أنها أرجى آية من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.

(4)              

 أخرج البيهقي عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قال: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى؟ قَالَ: قَوْله تَعَالَى ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكَيْنَا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾.

(5)              

 قال أبو جعفر النحاس: «ويقال: إنَّ هَذِهِ الآيةَ مِنْ أرْجَى آَيةٍ في القُرْآن ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾».

(6)              

 قال ابن عطية: سمعت أبي رضي الله عنه يقول: إن أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً﴾.

 

وقد قال تعالى في آية أخرى : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾، فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر بها المؤمنين في تلك.

(7)              

 قال القرطبي:«وَقَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾».

زاد الزركشي والسيوطي في (أرجى آية) أقوالا أخرى هي:

 

(8)              

 «آية الدين، ومأخذه: أن الله تعالى أرشد عباده إلى مصالحهم الدنيوية، حتى انتهت العناية بمصالحهم إلى أن أمرهم بكتابة الدين الكبير والحقير، فبمقتضى ذلك يرجى عفو الله تعالى عنهم، لظهور أمر العناية العظيمة بهم حتى في مصلحتهم الحقيرة.

(9)              

 قال الشبلي: في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾: «إذا كان الله أذن للكافر بدخول الباب إذا أتى بالتوحيد والشهادة، أفتراه يخرج الداخل فيها والمقيم عليها؟».

 

ولا ريب أن لكل قول مأخذا مناسبا في المعنى، وهكذا القرآن لا يخلق عن كثرة الترداد ولا تنقضي عجائبه، ولا تنفد حكمه وعبره.

 

فأين نحن من هذا التدبر العميق لاستخراج أمثال هذه اللآلئ النورانية من كتاب الله العزيز؟.