من المعروف علمياً أن مدة ذاكرة السمك قصيرة للغاية، ولا تتعدى ثواني، وعلى مايبدو أن الشعب المصري يتمتع بذاكرة سمكية تجعله ينسى الأحداث الجسام التى تمر به بسرعة.. حتى ولو كانت هذه الأحداث فيها التضحية بمقدارته .

فى يوم الثلاثاء27 نوفمبر عام 1979  أعطى السادات بالفعل إشارة البدء لحفر ترعة السلام بين فارسكور (تقع على فرع دمياط) وبين التينة (تقع على قناة السويس شمال الإسماعيلية) حيث تقطع مياه الترعة بعد ذلك قناة السويس خلال ثلاثة أنفاق لتروى نصف مليون فدان.

وقد نشرت الخبر مجلة "أكتوبر" القريبة من السادات فى عددها يوم 16 ديسمبر عام 1979 قائلة : «التفت الرئيس السادات إلى المختصين، وطلب منهم عمل دراسة علمية كاملة لتوصيل مياه النيل إلى مدينة القدس لتكون في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى !! »، وأن الرئيس قال : «ونحن نقوم بالتسوية الشاملة للقضية الفلسطينية سنجعل هذه المياه مساهمة من الشعب المصري وباسم مئات الملايين من المسلمين تخليداً لمبادرة السلام. وباسم مصر وأزهرها العظيم، وباسم دفاعها عن الإسلام تصبح مياه النيل هي «آبار زمزم» لكل المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة، وكما كان مجمع الأديان فى سيناء بالوادي المقدس طوى رمزاً لتقارب القلوب فى وجهتها الواحدة إلى الله سبحانه وتعالى .. فكذلك ستكون هذه المياه دليلاً جديداً على أننا دعاة سلام وحياة وخير ».

كما أن نشرة «التقدم»  _وهى عبارة عن نشرة داخلية لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي اليساري "توتو" بدلاً من جريدة الأهالي المحتجبة فى ذلك الوقت _ قد تناولت الموضوع قائلة : «التصريحات الرسمية الأخيرة حول مياه النيل يجب ألا تمر بشكل عابر لأنها تمس شرياناً حيوياً لحياة شعبنا، ويجب أن تنتبه جميع الهيئات الشعبية والنقابية والثقافية والفنية والعلمية إلى خطورة ذلك ، وأن ما ينشر فى الصحف الحكومية بين فترة وأخرى عن أزمة مياه الري وعدم كفايتها وشكاوى الفلاحين من نقصها لا يمكن أن تكون نتيجته تلك الكلمات الساخرة - والخطيرة فى نفس الوقت - عن «زمزم» و«القدر» لأنها سخرية فى نفس الوقت من مقدرات شعبنا وثمانية شعوب أخرى من حولنا».

كما أن صحيفة الأهرام نشرت فى (أغسطس 1980) المراسلات بين السادات وبيجين، وبين السادات والملك المغربي الحسن الثاني حول مشروع "زمزم الجديدة" .

ففى رسالة نشرتها «الأهرام» بتاريخ 13 أغسطس 1980 من السادات إلى بيجين يقول : «لعلك تذكر أيضا أنني عرضت أن أمدكم بمياه يمكن أن تصل إلى القدس مارة عبر النقب حتى أسهَّل عليكم بناء أحياء جديدة للمستوطنين فى أرضكم ، ولكنك أسأت فهم الفكرة وراء اقتراحي وقلت إن التطلعات الوطنية لشعبكم غير مطروحة للبيع . ورغم أن إزالة المستوطنات غير القانونية لا يجب أن يعلق على أي شرط إلا أننى على استعداد للذهاب إلى هذا المدى لحل هذه المشكلة باعتبار ذلك إسهاماً آخر من مصر من أجل السلام».. رد بيجين على السادات :

« اقترحتم نقل مياه النيل إلى النقب ، وفي ذلك الحديث لم تذكروا نقل المياه إلى القدس ، بل إلى النقب ، وأن نقل مياه النيل إلى النقب فكرة عظيمة، ولكننا يجب أن نفرق بين النواحي المادية والمسائل الروحية أن لنا حقوقاً فى القدس لا يمكن المساس بها ».

كما أثيرت القضية في مجلس الشعب وقتها .

ونقلاً عن جريدة «الشعب» لسان حال حزب العمل المعارض في ذلك الوقت؛ فإن جلسة المجلس يوم 24 نوفمبر 1978  شهدت معركة حامية الوطيس بين الحكومة والمعارضة بزعامة المهندس إبراهيم شكري رئيس الحزب، وبدأت بطلب إحاطة وثلاثة أسئلة عما نشر عن فكرة توصيل مياه النيل لإسرائيل ، ورد عليها كمال حسن على وزير الخارجية وقتها بـ "أن الرئيس السادات طرح هذا الموضوع في معرض حديثه مع بيجين فى العريش وبعد استلام %80 من أراضى سيناء ، ولم تبق إلا قضية القدس والحكم الذاتي، وطرحه من أجل إيجاد تسوية عادلة من أجل القدس، وليبين أنه كيف أنه مستعد للتضحية من أجل القدس، ورفض بيجين الفكرة منذ البداية وانتهى الأمر ، ولم ترد فى الخطابات المتبادلة بينهما حينما توقفت المفاوضات بسبب إجراءات الكنيست الإسرائيلي الخاصة بالقدس ، ولم تتخذ أي إجراءات تنفيذية حول هذا الموضوع ، ولم يطرح فى أي إطار للتفاوض مع إسرائيل سواء في مفاوضات الحكم الذاتي ، أو تطبيع العلاقات ، ولو حدث ذلك لتطلب الأمر عرض الموضوع على المجلس أو إجراء مفاوضات مع الدول المستفيدة من مياه النيل ، ولو أدى الأمر إلى التضحية بجزء من مياه النيل من أجل آمال الفلسطينيين .. فلن نتردد فى ذلك».

وقال السادات في خطاب وجهه للملك الحسن الثاني ملك المغرب : «ثمة مسألة أخرى أحب أن أطرحها للحقيقة والتاريخ؛ فرغم الإساءات التى وجهت لمصر من تجمع ينتحل صفة الإسلام (يقصد المؤتمر الإسلامي ) بعد اجتماع عقد فى عاصمة بلادكم، فقد ظلت مصر حافظة لمسئوليتها ، وفية لمبادئها وقِيَمِها ، حريصة على موقعها فى طليعة المسيرة القومية التاريخية ، وعلى قيادة كل عمل جاد يقوم به العرب والمسلمون للذود عن المصلحة العربية والإسلامية العليا ، والتصدي للتحديات التى تواجه أمتنا في حاضرها ومستقبلها، وانطلاقاً من هذا المفهوم فقد ذهبت إلى أبعد المدى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي لإقناعه بالتسليم بضرورة احترام حقوق العرب والمسلمين في القدس، وبوجوب وقف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وغزة ، والبدء بإزالة المستوطنات القائمة ، وكحافز للجانب الإسرائيلي ، فقد عرضت عليه إمداد إسرائيل بجزء من حصة مصر فى مياه النيل لاستخدامها في إعادة تسكين المستوطنين في منطقة النقب ، بعد إجلائهم عن المستوطنات القائمة في الضفة الغربية وغزة ، وعلقت هذا الموضوع على شرط تعاون إسرائيل معنا فى حل مشكلتيّ القدس والمستوطنات».

ويضيف «لم يكن هذا العرض قراراً انفردت به ، بل إنني بحثت الأمر وقلبته من جميع جوانبه مع نائب رئيس الجمهورية (مبارك) ورئيس الوزراء ووفد المفاوضات ، وإن للمرء أن يتساءل عما إذا كان أحد هؤلاء الذين اجتمعوا لديكم في الرباط ، وتطاولوا على مصر ودورها يستطيع أن يرتفع إلى هذا المستوى ويقدم جانباً يسيراً من هذه التضحية في سبيل الآخرين».

وهكذا .. فقد رأينا كيف يتم التآمر على النيل منذ عقود ، لكن الفارق بين طرح الفكرة أيام السادات وطرحها الآن .. أنها ساعتها وجدت من يتصدى لها من بعض الوطنيين من أمثال الكاتب الصحفي كامل زهيري وإبراهيم شكري فى البرلمان ونقابة الصحفيين .  أما اليوم فالمعارضة مستأنسة ، والأحزاب كرتونية تتسابق على فتات العسكر ، أما الصوت المعارض الحقيقى فهو مابين شهيد وجريح ومعتقل ومطارد  .

ولك الله يا مصر .