المؤمن مشغول بالصالحين، مشغوف بمعرفة أخبارهم، يرى السابقين منهم أصوله وجذوره وقدواته، ويرى نفسه امتدادًا وثمرةً وصدى لجهادهم وصالح أعمالهم؛ فكتاب الدعوة مفتوح معطاء لمن يقرأ ويتدبر ويتعلم، متاح لمن أراد أن يجعل لنفسه فيه مكانًا، فيحظى بجوار الصالحين والقدوات، ويتعلم منه الناس كما تعلم هو ممن سبقه.

وقد روى البخارى عن عبد الله بن عباس قال:

(لَمَّا كانَ بيْنَ إبْرَاهِيمَ وبيْنَ أَهْلِهِ ما كَانَ، خَرَجَ بإسْمَاعِيلَ وأُمِّ إسْمَاعِيلَ، ومعهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ، فَيَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إلى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، حتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِن ورَائِهِ: يا إبْرَاهِيمُ إلى مَن تَتْرُكُنَا؟ قالَ: إلى اللَّهِ، قالَتْ: رَضِيتُ باللَّهِ، قالَ: فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، حتَّى لَمَّا فَنِيَ المَاءُ، قالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا، قالَ فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا فَنَظَرَتْ، ونَظَرَتْ هلْ تُحِسُّ أَحَدًا، فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، فَلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِيَ سَعَتْ وأَتَتِ المَرْوَةَ، فَفَعَلَتْ ذلكَ أَشْوَاطًا، ثُمَّ قالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ ما فَعَلَ، تَعْنِي الصَّبِيَّ، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هو علَى حَالِهِ كَأنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ، فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا، فَقالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ، لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا، فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ ونَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، حتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ ما فَعَلَ، فَإِذَا هي بصَوْتٍ، فَقالَتْ: أَغِثْ إنْ كانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِذَا جِبْرِيلُ، قالَ: فَقالَ بعَقِبِهِ هَكَذَا، وغَمَزَ عَقِبَهُ علَى الأرْضِ، قالَ: فَانْبَثَقَ المَاءُ، فَدَهَشَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَعَلَتْ تَحْفِزُ، قالَ: فَقالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو تَرَكَتْهُ كانَ المَاءُ ظَاهِرًا. قالَ: فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ المَاءِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، قالَ: فَمَرَّ نَاسٌ مِن جُرْهُمَ ببَطْنِ الوَادِي، فَإِذَا هُمْ بطَيْرٍ، كَأنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَاكَ، وقالوا: ما يَكونُ الطَّيْرُ إلَّا علَى مَاءٍ، فَبَعَثُوا رَسولَهُمْ فَنَظَرَ فَإِذَا هُمْ بالمَاءِ، فأتَاهُمْ فأخْبَرَهُمْ، فأتَوْا إلَيْهَا فَقالوا: يا أُمَّ إسْمَاعِيلَ، أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ معكِ، أَوْ نَسْكُنَ معكِ......)

وأروع ما فى قصة هاجر عليها السلام أنها قصة امرأة، وليست قصة نبى مجتبى مؤيدٍ بالوحى، وتمثل قصتها مع رضيعها نموذجًا حقيقيا لفعل بشرى فطرى، يستحيل فيه التجمل والتصنع؛ فمعادلة الحياة والموت لا مجال فيها لغير الصدق، يزداد الأمر صدقًا ووضوحًا حين يتعلق الأمر برضيعها، فقد يسهل على كثير من الأبطال أن يضحى بنفسه، لكن الأمر جد مختلف حين يتعلق الأمر بحياة رضيع برئ ضعيف، تهون من أجل حياته حياتها، ويزيد القصة روعة وجلالًا تخليد الله لها ولرموزها، فلا يزال الناس -وسيبقون- إلى يوم القيامة يذكرون هاجر ويقتدون بها، فيشربون من زمزم كما شربت هاجر منها أول مرة، ويسعون بين الصفا والمروة كما سعت، بل يرملون كما رملت، وحيث رملت، فى عبادة خالدة تعبدهم ربهم بها، وكلفهم تحمل مشاق السفر ومؤنته لأدائها، وما ذلك -فيما أفهم -إلا ليلفتنا جميعًا إلى ما فى القصة الأولى من دروس وفوائد، وأن هذه الدروس والعبر والمبادئ والقيم تمثل حاجةً لازمةً لكل مؤمن، يرجو ما عند الله فى الآخرة، ويعمل لنصرة دينه فى الدنيا.

وتتجلى مظاهر إيمان (هاجر) على بساطة المشهد وسرعته حين تستجمع كل زوايا قصتها وخطوطها، وتتمثلها كأنك تراها تحدث أمام عينيك، وتتفهم ملابساتها وتفاصيلها، فهى -عليها السلام- امرأة لم تلبث أن تضع لزوجها النبى الشيخ الكبير الذى عاش حياته كلها بلا ولد، لم تلبث أن تضع له وليدًا ذكرًا، ثم تظهر غيرة سارة من هاجر عليهم السلام جميعًا، فيسافر بها زوجها مع رضيعها، عبر رحلة طويلة طويلة من فلسطين إلى مكة، فهى الآن قد انتقلت من بيتٍ عامرٍ لا يخلو من ضيوف إبراهيم، ومجتمعٍ صاخبٍ يعج بالناس، ويضج بالحياة، نقلها زوجها إلى مكان لا زرع فيه ولا ماء، (ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع ...) ليس فيه من مظاهر الحياة مظهر واحد، وذلك ما جعل الناس من جرهم يتعجبون حين رأوا طيرا يحوم حول المكان، فأرسلوا واردهم يستقصى لهم الخبر- ثم هو - ذلك الزوج لم يترك لهم كثير زاد يأكلون منه ويشربون، ولم يدلهم على ما يفعلون حين ينفذ ما معهم، وهو قليل، وهو يولى راجعًا تاركهم فى هذا المكان بلا كلمة ولا شرح ولا شئء! تلك هى القصة باختصار.

ويتجلى أولا مظهر البشرية فى هاجر حين تسأل إبراهيم: (إلى من تتركنا؟) وفى الرواية الأخرى: (.. ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟) إنه الانفعال الطبيعى والسؤال الطبيعى... إلى من تتركنا؟... أالله الذى أمرك بهذا؟ وهو على بساطته يؤكد على الحقيقة البشرية للنموذج القدوة، فالكلام يدور حول بشر لهم مشاعرهم وتخوفاتهم، لهم حساباتهم ورؤاهم، لهم حق السؤال، بل لهم حق الاعتراض إن لزم الأمر. لقد أرادها الله درسا ومعلما للبشرية، فلزم أن تكون قصةً من واقع حياة المؤمنين الحقيقية، يحسن ويسهل القياس عليها، ويصلح للناس أن يستحضروها فى حياتهم ومواقفهم حين يحتاجون إليها، فهاجر تسأل سؤالها المشروع، وإبراهيم يجيب بعلمه، (قالت: يا إبْرَاهِيمُ إلى مَن تَتْرُكُنَا؟ قالَ: إلى اللَّهِ،) أو (فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ،). فبشريتنا سر عظمتنا ومفتاح تميزنا، ليس فيها ما يعيبنا ولا ما نخجل منه، فليعبر كل امرئ عن نفسه، ولا يفزعه ضعف، ولا يخجل من شعور، ولا يتوارى عن ربه بما يعلمه سبحانه، فقد قال موسى وهارون: (ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى..) ولا يخفى عن إخوانه ما يعتمل فى صدره، ولا تضيق صدورنا حين يعبر الناس عما يجدون، بل نسع الناس جميعًا وأولى الناس بنا الصالحون ومن اختارونا فأودعوا لدينا همومهم، فأحسنوا الظن بنا وأكرمونا، وليس فيما خلق الله فينا مما فطرنا عليه، عيب ولا مؤاخذة، إنما المشكلة دائما فيما نقرر ونختار، والخطر أن نخشى الناس، والله أحق أن نخشاه.

ثم يأتى مشهد البطولة والتفوق، وبيان عظمة النموذج، وسر خلوده وسبب رضوان الله وحبه، إنه التسليم والرضا، وسكينة النفس وهدوء الروح لما قدر الله وقضى، وهو ركن من أركان الإيمان، (يا إبْرَاهِيمُ إلى مَن تَتْرُكُنَا؟ قالَ: إلى اللَّهِ، قالَتْ: رَضِيتُ باللَّهِ، قالَ: فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا،) (فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ..) وهنا يعلو الإيمان ويهيمن، يقرر الإيمان فيأمر وينهى، بلا تعقيب ولا شك ولا تردد ولا ضعف، يعلن الإيمان عن نفسه مدويًا بكلمات خالدة لا تموت: (رضيت بالله - إذن لا يضيعنا)، هنا نعلم أن الإيمان أقوى وأكبر مما تراه العيون وتدركه العقول، الإيمان بالله والاطمئنان لجنابه والثقة فى معيته أكبر وأقوى من كل خطر محدق وهلاك متوقع، إنها حالة عجيبة لكنها فى تراثنا ليست نادرة، فقد تكرر الأمر فى قصص كل النبيين والصالحين، ولعل فى تكراره رسالةً ودليلًا على خلوده، وحاجة كل مؤمن على حدته وكل جماعة مؤمنة إليه، فقد تكرر هذا المشهد العجيب الراقى كثيرًا كثيرًا، وعظمة المشهد أنه يحوى بجوار الكلمات الكبرى على قلتها- فعلًا ووجدانًا، وليس فعل هاجر بأقل من كلماتها عظمةً ورقيًا، وكذلك مشاعرها الظاهرة المؤكدة، فالإيمان ليس كلماتٍ فحسب بل فعل وشعور، وقرارات واختيارات، وأثر نفسى فيما نشعر به ويموج فى النفوس والقلوب، لقد رجعت هاجر وتركت إبراهيم لسبيله يمضى بعيدًا، لتبقى مع إيمانها متمثلًا فى رضاها وتسليمها بقضاء الله وقدره، وثقتها أن ما يدبره الله لها خير مما تدبره لنفسها، بقيت مع إيمانها الكبير ورضيعها الصغير، بقيت يملأ حياتها وصحراءها هذا اليقين وتلك السكينة، ولقد عاشت حياتها اليومية طبيعية بكل رضى، لا أثر فيها لشكوى أو تذمر أو غضب أو استنكار، إنها تشرب من الماء، وترضع وليدها، حتى نفذ الماء، إنها تعبد الله برضاها وتسليمها، وتعبد الله بكل عبادةٍ وواجبٍ منتظرٍ منها، إنها تعلم أنها لا تدير هذا الكون ولا تدبر الأقدار، بل تتعبد الله وتتقرب، بطاعة ما أمر واجتناب ما نهى. حتى نصرها الله، وقد رضى عنها من قبل.

إن هذا القدر اليسير من هذه القصة الكبيرة، ليحوى من النور المبين والهداية الربانية ما يزيل عن الصدور جبال الهموم، ويحيل حياة المؤمنين فى دنياهم جنات النعيم، ويقرب منا النصر العزيز الذى نحب، إن رؤية الإيمان فى نفوسنا حيًا فاعلُا، ووجوده على أرض واقعًا عاملاً مؤثرًا، وحركة ذلك الإيمان وسطوته فى تفاصيل حياتنا اليومية، لهى النقطة الحرجة التى يتغير عندها كل شئ، يتغير عندها الكسل إلى نشاط، والجدال إلى إنتاج، وقسوة القلب إلى طراوة ورقة، والمادية إلى ربانية، والتسخط على الناس وكيل التهم لهم إلى التفات للنفس وعيوبها والتماس الأعذار للآخرين، ويحول ضعفنا قوة، واستضعافنا تمكينا (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)

إنها هاجر زوجة الرسول الكبير أبى الأنبياء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ترضى بقدر الله الذى لا تدرك العقول حكمته وتفاصيل حركته، وتغشاها سكينة الإيمان فى مكان يستوحش فيه أشد الرجال، بل يستوحش فيه الجماعة من الناس، فلا طعام، ولا شراب، ولا خطة عمل أصلية أو للطوارئ، وفى حياتنا وفى ظروفٍ كثيرة لا يحتاج المؤمن أكثر من إيمانه، ولا يفتقر الله -عز وجل عن ذلك علوا كبيرا- إلى جهودنا وخططنا، لا يريد الله منا إلا أن نريه خيرًا، نسعى فيما نقدر (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..) وتمتلئ قلوبنا بالإيمان الحق، حينها يصب الله علينا الخير صبًا، ويفتح علينا من خزائن فضله وعظيم مننه ما يفرح له وبه المؤمنون.