د. عطية عدلان

يكاد إجماع فقهاء القانون الدوليّ ينعقد على أنّ المعاهدات الدولية المتعلقة بالأنهار والتي ربما بلغ تعدادها -حسب تقارير الأمم المتحدة- حوالي 250 معاهدة، يكاد إجماعهم ينعقد على أنّ تلك المعاهدات أنشأت عرفا دوليا عامّا ومستقراً يصح الاستناد عليه في حسم النزاع بين الدول المحتضنة للأنهار الدولية العابرة للحدود السياسية.

ومن المؤكد أنّ معاهدة فيينا عام 1851 ومعاهدة جينيف 1923 قد اعتمدتا على كثير من هذه الاتفاقيات، ومن المعلوم أنّ الاتفاقيات الدولية تُعَدُّ المصدر الأول للقانون الدوليّ، ومن ثم فلا يُعَدُّ فقراً في القواعد الحاكمة العادلة أن يكون القانون الدوليّ لم يكتمل ولم يستقرّ فيما يتعلق بالأنهار الدولية، خاصة وأنّ سبب القصور يعود إلى اختلاف طبيعة الأنهار وما ينشأ عليها.

وفي المقابل وعلى التوازي يكاد إجماع السياسيين والمراقبين ورجال الفكر السياسيّ وأرباب الممارسة السياسية ينعقد على حقيقة مفادها أنّ القانون الدوليّ ومعه المعاهدات التي أرفدته بالقواعد القانونية ليس كافيا في حسم النزاع على المياه وفي مواجهة تحدي الأمن المائي، إذْ لا بدّ من توافر عامل القوة الذي يفيد في إلزام المفاوض الخصم بهذه القواعد وتلك الأعراف، والسبب هو “هشاشة القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي”([1])؛ النابعة من تهافت وصف الوضعية الذي يجعل القانون صادراً عن إرادة مُجْبِرة([2])، فكل أمّة تُعْمِل قوتها على أرض الواقع لتصنع لنفسها وضعاً مريحا في ميدان العلاقات الدولية.

ومن هاتين الحقيقتين الراسيتين ننطلق إلى ما نريد تقريره هنا، حيث إنّ الحقيقة الأولى تَنْفُضُ تعللات الإثيوبيين، وتقيم عليهم الحجج الواقعية التي تعطي مصر حقاً -وإن لم يكن مصرحا به- في استعمال القوة لوقف تعنتها، وأمّا الحقيقة الثانية فتأتي لتسويغ القوة كعامل مفيد في حلحلة المشهد المتعقد ودفع عجلة المفاوضات للأمام، وما نريده تحديدا ليس فقط تسويغ استخدام القوة من الناحية الشرعية، وإنّما وجوبه ولزومه بأحكام الشريعة الغراء، وأحكام الشرع وإن كانت لا تتوقف على أعراف الناس إلا أنّها لا تهملها إذا كانت متفقة مع قواعد العدل، بل تراعيها وتُقِرُّها وتبني عليها.

وليس في هذا العالم حق لمواطنين -بعد الأرض التي يستوطنونها- أولى بالصيانة من حقهم في الماء الذي ساقه الله إليهم، لذلك كثرت الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تدخلت لحسم الخلافات المتعلقة بالأنهار الدولية، خشيةَ أن تشتعل الحروب التي لا تطفئها كل أنهار الدنيا، ولو أمدتها من بعدها سبعة أضعافها من الأنهار والبحار، تلك المعاهدات جاءت في معظمها ملبية لنظرية “الوحدة الإقليمية المطلقة للأنهار الدولية”، وكذلك نظرية “الملكية المشتركة”، وكلا النظريتين لاقت قبولا عند جمهور فقهاء القانون الدوليّ، وهذا كله مستمد من روح القانون الطبيعيّ، الذي أودعه الله تعالى في كونه وفي فطرة خلقه، ولا أحسب أنّه فيما يتعلق بالأنهار والمياة يبعد عن قوانين الشريعة ولو بمقدار رشفة ماء.

فالله عزّ وجلّ هو الذي خلق هذه الأرض وأجرى فيها الأنهار، وسخر الأرض وما فيها من أنهار لعيش الإنسان، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (إبراهيم: 32-33) فالذي سخر الشمس والقمر والليل والنهار هو الذي سخر الأنهار، وجميعها مسخرة للإنسان -جنس الإنسان- فلا يملك أحد أو جماعة صرف ما خلقه الله وسخره للإنسان عن طبيعته التي أوجده الله عليها لمجرد طروء الحدود السياسية على حياة البشرية، تلك الحدود التي لا استقرار لها لا يمكن أن تنسخ القانون الفطريّ الذي يستمد استقراره من أصل خلقته وتسخيره، فإذا كان النهر يجري في بلدان فهو يجري وفق إرادة الخالق رزقا للعباد في تلك البلدان، فيجب أن يبقى على حاله.

فليس للأثيوبيين -إذَنْ- أدنى حقّ فيما يفعلون، وإذا كان لهم الحق في التنمية واستثمار المجرى فيجب أن يكون ذلك بما لا يخرج النهر عن طبيعته التي فطره الله عليها قبل أن يوجد على الأرض إنسان، وحقّ الشعب المصريّ في حماية أمنه المائيّ حق تحرسه الشريعة والفطرة والقوانين الدولية والمعاهدات المتوالية المتواترة في طول الأرض وعرضها، بما في ذلك معاهدات مصر وإثيوبيا.

وعليه فإنّ الواجب شرعاً حماية حياة وأقوات شعب مصر وإنْ بالقوة، ومأخذ الوجوب الشرعيّ هنا غاية في العمق والرسوخ، فالأصل أنّ الأنهار الطبيعية التي خلقها الله حقٌ للعباد، سخرها الله تعالى لهم وجعلها مباحة متاحة للشرب والسقي وسائر ألوان الانتفاع المباح: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ) (إبراهيم 32)، بل إنّ هذا التسخير هو في الأصل للذين آمنوا، والكفار يشاركونهم فيه تبعاً([3]): (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف 32)، ومصر منذ الفتح الإسلاميّ هي من أرض الإسلام، ونيلها -تبعاً لأرضها- من بيضة الإسلام، وحماية البيضة من صُلْب أعمال الدولة([4])، كما أنّ دفع غائلة المعتدي الظالم عن المسلمين مقصد شرعي كبير، ينقل وجوب القتال والجهاد من وجوب على الكفاية إلى وجوب على التعيين، وليس هناك عدوان أشد من العدوان على المياه الطبيعية التي أجراها الله بأصل الخلقة للعباد فيما تجري فيه من البلاد؟!

والقانون الدولي المتعلق بالأنهار الدولية يوفر الغطاء للتحرك العسكري الرامي إلى حماية حق الشعب المصريّ في مياه النيل، صحيحٌ أنّه لا يبيح الغزو ولا الحرب، ولكنه في النهاية يقرر جملة من المباديء التي تجعل التحرك العسكريّ مسلكاً دفاعياً لا هجوميا عدوانيا، مثل مبدأ: عدم التعسف في استعمال الحق، ومبدأ: التوزيع العادل والمعقول للحياة بالنسبة للدول المتشاطئة، وغيرها من المبادئ التي رغم هلاميتها تبقى قوية وصارمة، إضافة إلى اتفاقية 1902 التي وقع عليها الإمبراطور الإثيوبيّ، والتي تُعَدُّ -بحسب مبدأ توارث المعاهدات للدول المتجاورة- ذريعة للتدخل العسكريّ، لا سيما أنّ المعروف تاريخياً أنّ الأرض التي بني عليها السد أرض سودانية في الأصل، فإن لم تصلح هذه الحقائق لإعطاء الحق الكامل للتدخل، فعلى أقل تقدير تصلح لتكون مبررات للتهديد الفعليّ عبر تحريك الجيوش وحشد العساكر والقيام بمناوشات تهديدية متنوعة بقصد حلحلة عملية المفاوضات.

هذا هو الوضع الطبيعيّ التلقائي لبلد بحجم مصر ولخطر بحجم ضياع النيل، وهذا الوضع الطبيعي التلقائي هو الوحيد الذي يملك القدرة على محو عار اتفاقية إعلان المبادئ التي أعطت الحق ومعه الضوء الأخضر للاستمرار في البناء والاستدرار للدعم والعطاء، والتي تقف حائلا بالمادة العاشرة منها دون حق التظلم لدى المؤسسات الدولية.

——————

 

([1])  راجع: العلاقات الدولية ل جوزيف فرانكل ترجمة غازي القصبي ص 91

([2])  راجع للكاتب: الأحكام الشرعية للنوازل السياسية ط الثالثة دار اليسر القاهرة ص 431

([3])  راجع: تفسير الزمخشري (2/ 101)، تفسير النسفي 1/565 ، تفسير أبو السعود 3/224

([4])  راجع:   الأحكام السلطانية – للقاضي أبي يعلى – دار الكتب العلمية – بيروت ، لبنان – الطبعة : الثانية 2000 م –  (ص: 27 – 28)

 

المصدر : الجزيرة مباشر