لا يغيب عن داعيةٍ واعٍ ولا مصلحٍ أريبٍ أن الإصلاح والدعوة إلى الله عز وجل صراع بكل معانى الكلمات، لا هوادة فيه ولا راحة، ولا معاهدات ولا أنصاف حلول، فلا يرضى الدعاة والمصلحون بأقل مما يهدفون من الإصلاح، ولا يرضى المفسدون والظالمون إلا بالفساد والظلم والبغى بغير الحق! إذا هو الصراع الذى لا يتوقف ما دامت الحياة، فحيثما كان الظلم والفساد وجب الإصلاح، وحيثما كان المصلحون والدعاة كانت الحرب عليهم.

وفى الحروب والصراعات يستخدم المحاربون أسلحتهم كلها، يرجون الظفر بمقصودهم، عيونهم على ما يرجون تحقيقه، وما خططوا وعاشوا من أجله، والصراع بين الإصلاح والفساد من أعتى صور الحرب بين الناس، وفى كل المجتمعات. ولن يقصر فريق، ولا ينتظر منه أن يقصر، بل يستخدم كل فريق جميع ما يملك من أسباب قوته، يريد بذلك حسم الأمر لصالحه، ويستخدم كل ما يستطيع لإضعاف خصمه وهزيمته، وإزالته من ميدان الصراع. 

ومن أكبر الأسلحة التى يستخدمها الناس فى صراعاتهم سلاح اليأس، أو قنابل اليأس، التى يسعى كل فريق أن يلقى بها فى معسكر الخصوم، فإذا انفجرت فى معسكر من المعسكرات قنابل اليأس تلك كانت الهزيمة، هزيمة محققة بلا سلاح، وبلا جهد، وهزيمة لا يرجى بعدها قيام للمهزوم، ولا ينتظر لجراحها شفاء قريب.

وقنابل اليأس متعددة الأشكال والأنواع، فمنها اليأس من النفس وقدرتها على تحقيق الأهداف، ومنها الياس من التحرك الجماعى المنظم، واليأس من واقعية الأهداف، واليأس من جدوى الوسائل، واليأس من النصر، واليأس بسبب قوة العدو، أو مهارته، أو كثرة أتباعه، واليأس من طول الطريق أو مشقته، واليأس من تساقط الأعوان على الطريق وتنكبهم، أو تحول بعضهم لصفوف العدو، واليأس بسبب تخذيل المنهزمين أو المندسين، وغير ذلك من أنواع اليأس وصوره.

وإذا تمكن اليأس من فريق أو من فرد صار النجاح مستحيلًا، بل حتى مجرد الاستمرار والبقاء الشكلى الرمزى فى معسكر الفريق، فمع اليأس تكون الهزيمة بكل صورها، هزيمة نفسية تحول دون العمل وبذل الجهد، وهزيمة أخلاقية تغرى بصور من الانحراف السلوكى عن المستوى المعتاد- لم تكن متخيلة يوما، وهزيمة ميدانية تورث الضعف والتخاذل، والتوقف والاستسلام والفشل، وربما التحول إلى المعسكر المضاد، فيصير المنهزم قوة مضافة لمعسكر الخصوم، وبوقًا ينشر الضعف والتخاذل فى معسكره الأول. 

من أجل ذلك يحرص كل فريق على أن يلقى بهذه القنابل فى المعسكر الآخر، وأن يطهر جانبه منه، ويجتهد كل الجهد أن يؤمن هذا الجانب، فأهل الحق يؤمنون معسكرهم ورجالهم بكل أسباب القوة، يؤمنون جانبهم بعقيدتهم فى ربهم: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). وبالنظر فى تاريخ الدعاة والمصلحين، (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) (قال كلا إن معى ربى سيهدين). وبالتأمل لأحداث التاريخ كزوال الامبراطوريات والدول الظالمة، وتغير موازين القوى على الدوام، وكذلك النظر الصحيح للأحداث الجارية كما فى فلسطين وأفغانستان.

ويحرصون كذلك على الفهم الصحيح الواضح من بداية الطريق، الفهم الصحيح لطبيعة طريق الدعوات، فهو طريق طويل صعب، يقوم على التضحيات بالنفس والمال ومتع الحياة الدنيا، وأن الغاية فيه تحقيق رضوان الله فى الآخرة، والهدف أكبر بكثير من أن يتحقق فى سنوات معدودات، فالهدف أن يمكن لهذا الدين بعمومه وشموله فى الأرض كل الأرض، ووسائلنا لتحقيق ذلك محكومة بشرع الله، لا يجوز فى ذلك أدنى انحراف، وأننا نتعبد إلى الله بكل جهد مبذول، وبكل نية صالحة، لكن نعلم علم اليقين أن لله فى كونه أقدارا وسننا، لا نملك تعجيل ما أخر ولا تأخير ما قدم.

ويستعين أهل الحق فى طريقهم بمعية الله وطاعته، واجتناب غضبه ومعصيته، فليست فى الوجود قوة أعظم من قوة الله، ولا إرادة تعلو على إرادته، ولا تدبير يغلب تدبيره، وليس أفتك فى العدو من معيته سبحانه وتأييده. ولا يسمح أهل الحق لأهل الباطل أن يفجروا فى معسكرهم قنابل اليأس المهلكة، فنحن نتعبد إلى الله بحسن ظننا فيه، وبصبرنا على لأواء الطريق وضخامة التضحيات، بل نرى ذلك من فضل الله علينا، بل من إيثاره لنا، ونسأل الله الثبات والقبول. ونتيقن أن ما وعدنا ربنا حقا : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، ونوقن فى قوله سبحانه: :(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون). فلا ينطلى علينا بهرج الباطل وما يدعيه، من اطمئنان وسكينة لما هم فيه، ومن استقرار حالٍ وثقة زائفة مزعومة، فالحال معلوم يراه كل ذى عينين، فكل يوم يأكل بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، فأين من كانوا بالأمس رموزهم، ولماذا لا يأمن أحدهم على مكانه ومكانته.

ونسمع ونطيع لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فحينما اعتمر صلى الله عليه وسلم- عمرة القضاء، وتحدثت قريش فيما بينها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عسرة وجَهْد وشدة، فصفَّ له المشركون عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه ثم قال: (رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة) ثم استلم الركن وخرج يهرول هو وأصحابه.