إن إخلاص القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وصدق القول، وأمانة الأداء كلها من مكارم الأخلاق التي بعث الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتممها، وليكوِّن بها اللبنات الصالحة في مجتمعه.

ثانياً: وجوب العمل الجماعي

وعلى امتداد الأحقاب والقرون لم تخلُ أمة من الأمم من مثل هذه اللبنات التي تتمثل في بعض الأفراد الصالحين أو العباد الزاهدين أو الدعاة المخلصين، وحتى أقسى الأمم وأسوؤها لا يمكن أن يكون خلواً من بعض الأفراد الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، ومن يعرفون الخالق بالمخلوق والمنعم بالنعم، والحكيم بالحكمة ويتحلون بالأخلاق الحميدة.

والعبرة في حركة التاريخ أو في نمو الحضارة وازدهارها ليست بوجود الأفراد المخلصين الذين يتصفون بهذه الأخلاق، مهما بلغ صلاحهم وتقواهم وإدراكهم لحقائق الأمور، وإنما العبرة والأهم أن تكون هناك حركة جماعية، وصلاح يشبه أن يكون تياراً قوياً هادراً غالباً لا ضعيفاً ولا مغلوباً، مؤثراً في غيره بالتعريف بدعوته بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، لا يتأثر بغيره، يقول الحق بعزة المؤمن الذي يستمد قوته من الله ثم من الجماعة التي يرتبط بها.

وليس هذا تقليلاً من عمل الفرد، ولا ما يتحلى به من صفات كريمة، ولكن إحقاقاً للحق الذي ندين به، ذلك لأنه إذا لم ينجح الفرد المخلص في تحويل دعوته إلى تيار عام يحمله المخلصون أمثاله، ويعتصمون بحبل الله ويكونون على قلب رجل واحد في جماعة واحدة كان من الخاسرين )، "والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( [العصر: 1-3] فالاستثناء من الخسران للجماعة التي تتواصى بالحق والصبر وليس للفرد ولو كان مخلصاً.

فإن قال قائل: أنا أستطيع أن أحكم بالإسلام على نفسي، فلا أظلم، ولا أزني، ولا أسكر، ولا أرابي، وأقيم صلاتي، وأؤدي زكاتي، وأصوم شهري، وأحج إلى قبلتي، وأقوم بكل واجباتي الإيمانية الفردية، وأدعو غيري لذلك ثم أمضي لحالي.

نقول: هذا جميل، ولكن من فعل ذلك كمن أحسن اختيار اللبنات وبدأ بنفسه فأصلحها، ودعا غيره لذلك، ولكن هل نطلق على اللبنات وإن كانت جيدة وصالحة للبناء ولكنها مبعثرة، إنها بناية متعددة الأدوار، أو عمارة مرتفعة الطبقات دون أن تجمع هذه اللبنات أو يشد بعضها بعضاً؟.

فهذا حال من دعا إلى ذلك، فكيف نطبق منهاجنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي بل من يقيم الحدود؟ ومن يقيم العدل ويرد الظلم؟ من يحدد الحلال والحرام؟ ومن يحدد أنواع النشاط ووسيلة الكسب؟ من يسوس الأمة ويحمي البيضة وينشر الدعوة ويجاهد الأعداء؟ مَنْ ومن ومن؟.

إن المسلمين إذا لم يحققوا ذلك في واقع حياتهم، واكتفوا بالمشاعر والشعائر فإنهم يقعون في تناقض اعتقادي لا مخرج منه وهم يستمعون إلى ربهم يقول لمن سبقهم وفعل ذلك من الأمم السابقة)أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون( [البقرة: 85] ويسمعون تحذير القرآن لرسولنا r وهو يقول له: )واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك( [المائدة: 49].

فلا يكفي أن يقوم أفراد محتسبون مخلصون من هنا وهنا يعملون متناثرين للإسلام. وإن كان عملهم مفيداً ومرصوداً لهم في ميزانهم عند الله، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، وكل امرئ يجزئ بما قدم حسب نيته، وإتقانه،  )فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره( [الزلزلة:7] )إن الله لا يظلم مثقال ذرة( [النساء: 40].

ولكن العمل الفردي في واقع الأمة الإسلامية المعاصر، لا يكفي لسد الثغرة وتحقيق الأمل المرتجى، بل لابد من عمل جماعي، وهذا ما يوجبه الدين ويحتمه الواقع.

الدين يدعو للجماعة:

فالدين يدعو إلى الجماعة ويكره الشذوذ، فيد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف ولا لمتقدم عليه، والمؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى فريضة من فرائض الدين والتواصي بالحق والصبر أشد شروط النجاة من خسران الدنيا والآخرة.

والواقع يحتم أن يكون العمل المثمر جماعياً، فاليد الواحدة لا تصفق، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته، والأعمال الكبيرة لا تتم إلا بجهود متضافرة، والمعارك الحاسمة لا يتحقق النصر فيها إلا بتضام الأيدي وتعاضد القوى، كما قال القرآن )إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص( [الصف: 4] يؤكد هذا: أن القوى المعادية لرسالة الإسلام وأمته، لا تعمل بطريقة فردية، ولا في صورة فئات مبعثرة، بل تعمل في صورة تكتلات وتجمعات منظمة غاية في التنظيم، لها هياكلها ولها أنظمتها ولها قيادها المحلية والإقليمية والعالمية، ومن الواجب علنياً أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، لا يجوز لنا أن نحارب المدفع بالعصى، ولا الدبابة بالحصان أو البغل، كما لا يجوز لنا أن نقاوم العمل الجماعي بالعمل الفردي، والعمل المنظم بالعمل المبعثر، فالفوضى لا تقاوم النظام، والفرد لا يقاوم الجماعة، والحصاة لا تقاوم الجبل.

والقرآن الكريم يحذرنا من ذلك حين يقول: ) والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير( [الأنفال: 73] ومعنى )إلا تفعلوه( أي إن لم يوال بعضكم بعضاً ويساند بعضكم بعضاً، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وأي فتنة وأي فساد أكبر من أن تتجمع قوى الكفر وتتفرق قوى الإسلام، وأن يتلاحم الباطل، ويتمزق الحق، فهذا هو الخطر الكبير والشر المستطير.

عمل جماعي منظم:

ولابد أن يكون العمل الجماعي منظماً، قائماً على قيادة مسؤولة، وقاعدة مترابطة، ومفاهيم واضحة، تحدد العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس من الشورى الواجبة الملزمة، والطاعة المبصرة اللازمة.

فالإسلام لا يعرف جماعة بغير نظام، حتى الجماعة الصغرى في الصلاة تقوم على النظام، فلا ينظر الله إلى الصف الأعوج، ولابد للصفوف أن تتراص وتتلاحم، ولا يجوز ترك ثغرة في الصف دون أن تملأ، فأي فرجة دون أن تملأ يسدها الشيطان، المنكب بجوار المنكب، والقدم بجانب القدم، وحدة في الحركة والمظهر، كما أنها وحدة في العقيدة والوجهة.

يعدل الإمام الصف خلفه حتى يستقيم ويتصل، وينصح من وراءه أن "لينوا بأيد إخوانكم" بالجماعة تقتضي قدراً من الليونة والمرونة لموافقة سائر الصف.

وبعد ذلك تكون الطاعة للإمام (إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قرأ فأنصتوا).

ولا يقبل من أحد أن يشذ عن الصف، ويسبق الإمام فيركع قبله، أو يسجد قبله، ويحدث نشازاً في هذا البناء المنظم المتناسق، فمن فعل ذلك يخشى أن يمسخ الله رأسه رأس حمار، ولكن هذا الإمام إذا أخطأ فإن من حق مَنْ وراءه –بل من واجبه- أن يصحح له خطأه، سواء أكان من غلط أم من سهو، وسواء أكان الخطأ في القول أم في الفعل، في القراءة أم في أركان الصلاة الأخرى.

حتى إن المرأة في الصفوف البعيدة تصفق بيدها لينتبه الإمام إلى خطئه.

إنها صورة مصغرة لنظام الجماعة الإسلامية، وما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين القيادة والجندية، فليست إمامة معصومة، ولا طاعة عمياء مطلقة، هذا ما دعا إليه الإمام حسن البنا حين أسس حركته الإسلامية المباركة ولم يكتف بالخطب والدروس والوعظ والإرشاد العام، على أهميته، بل رأى بنور بصيرته أنه لابد من التكوين بعد التنبيه، ومن التأسيس بعد التدريس كما عبر هو بقلمه وعلم أتباعه أن الجماعة ضرورة شرعية لابد لها من قائم يقوم عليها، وهكذا يكون فهمنا للإسلام، فكلى يقوم لابد له من عمل جماعي منظم.

فليس عناية الإسلام بالفرد إلا ليكون لبنة صالحة في الجماعة التي ستتحمل عبء الدعوة من حيث نشرها والجهاد في سبيل نصرتها، وإقامة الجولة التي دعا الإسلام إلى تشييدها وتدعيم أركانها.

لهذا كانت كل العبادات في الإسلام جماعية أو داعية إلى تدعيم الجماعة، فالصلاة في جماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وصلاة الجمعة لا تصح إلا في جماعة، كذلك صلاة العيدين، حتى سنة القيام في رمضان من المستحب أن تكون جماعة.

والزكاة تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء فيتعاطف الجميع وتزول الشحناء والأثرة فتتدعم الجماعة، كما يدفع الصيام الأغنياء على العطف على الفقراء، فيلتئم الشمل وتتحاب الجماعة، والحج في مظهره ومخبره فريضة جماعية يتساوى فيها الجميع في الملبس والموقف مودعين الدنيا مقبلين على الله فتتآلف القلوب وتتحد المشاعر، وتقوى رابطة الأخوة فيشتد عود الجماعة، والجهاد يقف فيه المسلمون صفاً كأنهم بنيان مرصوص، فيرضى الله عنهم ويرضوا عنه ذلك لمن خشى ربه، فجميع العبادات تدعم الجماعة وتقوى الروابط بين أفرادها لتحقق أهدافها السامية.