إحسان الفقيه

«مصر ليست أمي… دي مرات أبويا»، أتذكّر حالة الضحك التي انتابتني عندما قرأت لأول مرة عنوان هذا الكتاب للصحافي المصري أسامة غريب قبل ثورة يناير، ورغم القالب الساخر للمضمون، إلا أن إبرازه لمظاهر الفساد السياسي والاقتصادي الذي أغرق أرض الكنانة، أجبر ملامحي على التواؤم مع كم المآسي الذي يحياه أشقاؤنا في مصر.

وكم كان الكاتب موفقاً في اختيار العنوان، الذي يعبر عن خلفية بائسة ثابتة للحياة في مصر عبر العصور التاريخية لم تتغير، تفيد بأن مصر ليست للمصريين، إنما هي كما جاء وصفها في «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» لعميد المؤرخين المصريين تقي الدين المقريزي: «هي لمن غلب»، وذلك هو الوصف الأكثر دقة لما ترسخ في الوجدان المصري، الشعور بالاغتراب في الديار، ولعل هذا سبب ذيوع الأغاني والأمثال التي تتحدث عن الغربة لدى المصريين.

أحد كُتّاب أدب الرحلات وهو الدكتور حسين فوزي، رحمه الله، يحدثنا في كتابه «سندباد مصري»، عن حسبة غريبة في صدر الدولة المملوكية بمصر، تقول إنه في عهد المنصور حسام الدين لاجين في أواخر القرن السابع الهجري، قسم الروك الحسامي (يشبه عملية مسح الأراضي)، مصر إلى أربعة وعشرين قيراطا، أربعة للسلطان، وعشرة للأمراء، وعشرة للجند، فالحاصل أربعة وعشرون قيراطا، ليتساءل بعدها عن نصيب الشعب المصري في خير بلاده، ليجيب على نفسه: «إنه القيراط الخامس والعشرون، ومكانه مملكة السماء». ولا شك في أنها إجابة رمزية ساخرة، لأن الفدّان الواحد يحتوي على أربعة وعشرين قيراطًا فقط، لذلك يورد إيضاحا لذلك يزيد الإيقاع الساخر، عندما كان يتساءل الصغار أيام الاحتلال: لماذا اختص الخواجات (الأجانب) بهذا الخير؟ تجيب الجدة أحكم الحكماء: لهم الدنيا يا بني ولنا الآخرة». مصر ليست للمصريين، وخيرها ليس لأبنائها، حقيقة جعلت مصطفى صادق الرافعي صاحب وحي القلم أكثر أدباء مصر شهرة ورصانة، يخرج عن شعوره ويشكو أهل زمانه، حتى اتهمه بعض المتسلقين في وطنيته، ولم يكن الشاعر حافظ إبراهيم عن ذلك ببعيد، إذ قال في ثورة غضب على أحوال بلاده:

حطمتُ اليراع فلا تعجبي .. وعفتُ البيان فلا تعتبي

فما أنت يا مصر دار الأديب .. ولا أنت بالبلد الطيبِ

ومن اللافت في تاريخ المصريين، أنهم دائما واقعون في أيادي لصوص من الخارج أو من الداخل، فإما محتل أجنبي يحصد خيراتهم، وإما حكومات فاسدة تنهب خيراتهم وتلقي لهم الفتات، وأحيانا تضن عليهم بهذا الفتات وتحاربهم فيه. وعن هجرة العقول والمواهب والأفذاذ من تلك الأرض فحدث ولا حرج، فلا تسمع عن عالم فذ في مصر إلا بعد أن يقضي في بلاد الغرب عقودا بعد احتضانه، لأنه وجد الأبواب مغلقة في بلاده، وأحس فيها بالغربة، وأنها ليست له. يفقد المصريون حرية الكلمة في وطنهم، فإما أن يسبحوا بحمد الحكام، أو فليرحلوا، وأصبح مشتهرا عن المصريين أنهم في غربتهم لا يحظون بالتقدير، لأن وطنهم لم يمنحهم في الداخل هذا التقدير، ولا عجب إذن أن تغلق أمامهم المنابر الإعلامية في بلاد الغربة، التي كانوا يوصلون من خلالها كلمتهم ويتكسبون منها ما يعينهم على الحياة.

يُحكى أن الخليفة أراد أن يعبث مع جحا، فوضع رأسه على النطع، فلما هز السياف سيفه قال له جحا: احذر أن تصيب محاجمي فقد احتجمت، فضحك الخليفة ثم تركه. الدكتور محمد رجب النجار في كتابه «جحا العربي» يعتبر أن مثل القصة الواردة عن شخصية جحا، تعبر عن عبقرية الفلسفة الجحوية (نسبة إلى جحا) التي تتمثل في أسلوب هذه الشخصية في المواجهة، عندما تُحوّل المأساة إلى ملهاة في ضوء ضغط الواقع، والمأساة والملهاة هما تعبير ذائع في الأدب المسرحي يعادل التراجيديا والكوميديا.

لعل هذا تحديدا ما يوصف به واقع المصريين، رغم عمق مآسيهم وتراكمها يختبئون وراء الفكاهة والطرفة، وفي حدود معرفتي ليس هناك من شعب يتعلق بالنكتة والفكاهة في أحلك الظروف أكثر من الشعب المصري، وربما يفسر هذا شدة تعلق المصريين بالنموذج الجحوي، الذي تحمل حماقاته ونوادره، ثورة داخلية وسخطا داخليا على الأوضاع، إلا أن قالبها دائما يكون ساخرا ضاحكا، كنوع من المقاومة السلبية لضغط الواقع والهروب منه. تحول المصريين من المأساة إلى الملهاة، أو اختباؤهم من المعاناة خلف الفكاهة، أمر لاحظه عالم الاجتماع ابن خلدون ودونه في مقدمته، حيث وصف المصريين، بأنهم يغلب عليهم الفرح والخفة والغفلة عن العواقب، وعبر عن ذلك بقوله «كأنهم فرغوا من الحساب».

والمؤرخ أحمد أمين في قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، يتحدث عن انتشار النكات في الأوساط المصرية الفقيرة البائسة، فيقول إن أشد الناس بؤسا وأسوأهم عيشة وأقلهم مالا وأخلاهم يدا أكثر الناس نكتة، ففي القهاوي البلدية، حيث يجلس الصناع والعمال ومن لا صنعة لهم ولا عمل، وفي المجتمعات الشعبية حيث يجتمع البؤساء والفقراء، نجد النكتة بينهم تحل محلا ممتازا، ونجد ابن النكتة محبوبا مقدرا، يُفتقد إذا غاب، ويُبجّل إذا حضر، كأن الطبيعة التي تداوي نفسها بنفسها رأت البؤس داء فعالجته بالنكتة دواءً.

إن حس الفكاهة لدى المصريين، الذي يخفون وراءه أحزانهم ومآسيهم، إنما يعبر تعبيرا جليا عن ذلك التناقض في الشخصية المصرية التي ارتبطت في ميراثها الشعبي كثيرا بالحزن، فعلى الرغم من حس الفكاهة وما يبدو عليه المصري من مرح، إلا أنك ما إن تجالسه وتتحدث معه حديثا جادا حتى تكتشف حجم الكآبة التي تحيط بوجدانه، وكل من عاشر المصريين حتما يلاحظ أنهم كلما ضحكوا واشتد ضحكهم، كانوا أكثر قلقا، وتجدهم يقولون في هذه الحالة (اللهم اجعله خير). لقد صار تحويل المأساة إلى ملهاة متلازمة المصريين بما تعاقب عليهم من طغاة مستبدين يحولون حياتهم إلى عدم، وصبغت هذه المتلازمة كل مناحي حياتهم حتى ثوراتهم، ومن تابع أحداث ثورة يناير سوف يرى بزوغ الأدب الساخر في التصدي لدولة مبارك، كما برز هذا اللون من المقاومة بعد الانقلاب العسكري في 2013، ولا يزال هو اللون المفضل لدى المصريين المعارضين للنظام الحالي.

في أيام صغري شاهدت الفيلم الهندي الشهير «ميرانام جوكر»، لفت انتباهي وأثر في مشاعري مشهد المهرج بعدما توفيت أمه عندما كان يؤدي بعدها فقرته المضحكة على المسرح، كانت دموعه الحقيقية تختفي وراء أدائه الكوميدي الذي أضحك الناس، وربما هذا حال معظم المصريين الذي تراكمت عليهم الأزمات والقهر والقمع والتهميش عبر العصور، يحولون المأساة إلى ملهاة اضطرارا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية

المصدر: القدس العربي