عبد الله الشافعي

المؤمن حريص كل الحرص على طاعة الله، يسعى بكل ما يملك ليحوز رضوانه، ويستثمر كل فرصة تقربه إلى غايته، يفر من المعصية، ويخافها، فإن وقع فى شئ منها هرع إلى التوبة والاستغفار، وإن علم بابا يدخل عليه منه شر فى دينه أسرع بإغلاقه.

عَنْ أبي عَبْدِاللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {إن الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُما أمور مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيِرٌ مِنَ الناسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُه، أَلا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَح الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب}رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فالحلال الذى يقرب الناس من ربهم، ويشمل كل بر وطاعة وكل خلق كريم وعمل صالح،  ويشمل كل ما فرض الله على عباده وأحبه لهم، لينالوا برحمة ربهم عظيم رضاه، وجميل ثوابه. والحرام بضده- كل ما أغضب رب العالمين من قول وفعل واعتقاد وخلق، وقد بين الله سبحانه كلا الأمرين فى الكتاب والسنة، بين ذلك بيانا يعصم المؤمنين من التحير والارتباك، ويهديهم إلى صراطه المستقيم، وييسر لهم طريق الجنة، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ () وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا () يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ()}

نعم الحلال بين والحرام بين، وفى وقت الفتن يجتهد شياطين الإنس والجن الذين يتبعون الشهوات، يجتهدون يريدون أن يضل الناس، يريدون أن يميلوهم عن الحق، يريدون لهم الضلال، يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، فالله يريد بنا الخير، يريد الله لنا السلامة فى ديننا، يريد الله لنا النجاة فى آخرتنا، من أجل ذلك جعل الحلال بينا والحرام بينا، ولكن الشيطان له إرادة أخرى، ولن يضيع فرصته.

وهنا تكون المسئولية الكاملة على المؤمن نفسه، عليه أن يختار، وعليه أن يحذر، وعليه أن يجتهد، وعليه أن يلتزم. عليه أن يختار من الأقوال والأفعال ما يعلم يقينا أنها ترضى ربه، وعليه أن يتبين الدليل على ذلك واضحًا جليًا، عليه أن يتذكر أن الحلال بين، لا تتنازعه الأفهام، ولا تختلف عليه قلوب المؤمنين، وليس فيه من روائح الإثم والمعصية قليل ولا كثير، عليه أن يختار ما يبرئ دينه وعرضه، ويرضى عنه الله، عليه أن يختار ما يشرفه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين، عليه أن يختار ما ينفعه أمام الله سبحانه يوم القيامة.  

وعليه أن يحذر كيد الشياطين، شياطين الإنس والجن، الذين يزينون للناس الإثم والفجور، ويدخلون على النفوس من أبواب شهواتها، ومن نوافذ حميتها، ويستغلون جهلها، ويشغلون النفوس عن معاركها الحقيقية، ويستنزفون طاقاتها فيما لا يعود عليها بشئ، عليه أن يحذر الفتن، ويعتصم بالله.

على المؤمن أن يعتصم بالله، فيلتزم أشد الالتزام بكل أدب وخلق يحبه الله ورسوله، من عفة اللسان وحسن الظن والتماس الأعذار، ورعاية الحقوق، وتوقير المؤمنين واجتناب إساءتهم، واجتناب غيبتهم، واجتناب اتهامهم، يعتصم بالله فلا يتتبع عورات الناس، ولا يلتمس سقطاتهم، يعتصم بالله فلا يشيع إلا الخير ولا يخرج منه إلا الطيب، يعتصم بالله، بخوفه من الله، يعتصم بذكر الموت، يعتصم باستحضار يوم الحساب، يعتصم بامتثاله أمام الميزان، يعتصم بعلمه ويقينه أنه ضعيف لا يقوى على الفتن، ولا صبر له على العذاب، يعتصم بجهله وقله علمه، يعتصم بضعف فهمه وقصور قدراته عن أن يحيط بشئ من كل جوانبه، فيتواضع أن يخوض مع الخائضين، ويتهيب أن يدلى برأى أو يقدم على فعل، حينها يكون من المتقين.    

يلتزم الدعاء والتضرع لله أن يجنبه الفتن، ويهديه سواء الصراط، يلتزم نفسه يؤدبها بأدب الإسلام، ويلزمها ما يحبه الله ورسوله، ويدافعها عن شرورها ومزالقها، ويقهرها على الصواب والحق المبين، ويحرم عليها ما حرمه الله، ويتقى الشبهات مع الحرام، يتقى الشبهات التى لا يعلمهن كثير من الناس، يتقى أن يهلك نفسه، وأن يضل غيره، يمسك عليه لسانه وقلمه إلا من خير، وذلك جهاد الوقت وشرفه.