تبدأ اليوم، الخميس، في روما المحاكمة الغيابية للضباط المصريين الأربعة المتهمين بخطف وتعذيب وقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، في ظل تأكد غياب أي تمثيل للمتهمين، بسبب تخوف مصر من تحريك دعوى مباشرة ضد الدولة، أو إصدار قرار قضائي بضبطهم وإحضارهم، أو إدراج أسمائهم في القوائم الدولية. في هذا الوقت، يسعى مدعي عام روما، بمساعدة أسرة ريجيني، والحملة الحقوقية المساندة لهم وعدد من نواب البرلمان الإيطالي، إلى إقناع المحكمة بإصدار حكم ضد المتهمين في النهاية، وقبل ذلك الاستماع إلى عدد من الشهود الجدد، من بينهم الأكاديمية المصرية مها محفوظ عبد الرحمن، التي كانت المشرفة العلمية على أبحاث ريجيني وأعماله المختلفة خلال دراسته بالجامعة، والتي وجهته للسفر إلى مصر لإجراء أبحاثه حول النقابات المستقلة.

وبحسب القانون الإيطالي، يمكن للمتهمين جميعاً مخاطبة الادعاء العام لنفي الوقائع، كما يمكنهم المطالبة بالمثول أمام الادعاء للإدلاء بأقوالهم. وقال مصدر مطلع على مجريات المحاكمة إن الحملة الحقوقية المطالبة بالحقيقة من أجل ريجيني تقدمت بطلبات رسمية لرئاستي الجمهورية والوزراء ووزارة الخارجية لانتداب ممثلين لها في المحاكمة، للانضمام إلى الادعاء العام والمدافعين عن الحق المدني لريجيني، الأمر الذي لم تبت فيه هذه الجهات بعد، ارتباطاً بحرصها على عدم توتر العلاقات أكثر مع مصر.
وكشف المصدر أن هناك إشكالية أخرى تتمثل في أن الادعاء الإيطالي سيستند في مرافعته الرئيسية إلى أقوال ستة من شهود الإثبات، تم التوصل إليهم من خلال معلومات محدودة ذُكرت في تحقيقات النيابة العامة المصرية، وبنى عليها الادعاء الإيطالي جزءاً من تصوره للأحداث التي تم شرحها في مذكرة الاتهام، وذلك بعد التواصل المباشر مع هؤلاء الشهود بصور مختلفة لم يتم الإعلان عنها حتى الآن. ونظراً لضرورة الإعلان عن طبيعة تلك الاتصالات وهويات هؤلاء الشهود أمام المحكمة، فسوف يطلب الادعاء من المحكمة ضمان سرية هوياتهم، وسماع أقوالهم بصورة ربما لا تكون حضورية، من خلال رسائل خاصة، أو وسائل سرية تضمنها المحكمة، خشية المساس بأمنهم، أو تهديدهم من أي جهة لتغيير أقوالهم.

وبالتوازي مع ذلك، ربما تشهد الجلسات الأولى للمحاكمة توجيه مها عبد الرحمن مقاطع صوتية، لتقديم شهادة بشأن طبيعة الدراسات التي كان يجريها ريجيني، وسبب توجيهه إلى مصر تحديداً، واهتمامه بها، وطبيعة العلاقة بينه وبين المؤسسات التعليمية التي درس بها في مصر وبريطانيا. وبحسب مصدر قانوني مصري، على صلة بتطورات القضية، تبدو فرص تقدم مها عبد الرحمن بهذه التسجيلات كبيرة هذه المرة، بعدما أبدت استعدادها للتعاون مع لجنة برلمانية، على خلاف رفضها في العام 2017 التعاون مع الادعاء العام الإيطالي. وسوف تكون هذه المرة الأولى التي تدلي فيها مها بتفاصيل مهمة، يعول عليها الإيطاليون لنفي الاتهامات المصرية لريجيني بالتجسس وإقامة علاقات مريبة مع مجموعات سياسية ونقابية مختلفة. وسوف يزيد كشف أي معلومات جديدة لصالح ريجيني أمام المحكمة من أهميتها قانونياً لعدة أسباب، منها إضافة معلومات لملف القضية لم تكن معروفة من قبل في مرحلة التحقيق، وإنهاء مرحلة التشكيك في نوايا ريجيني بالسفر لمصر، فضلاً عن كشفها المرتقب عن تفاصيل اتصالاته بها في الفترة القصيرة التي سبقت اختطافه.
كما ستشهد المحاكمة تقديم عدد من الشهادات غير المروية في التحقيقات القضائية الرسمية، أدلى بها وزراء ومسئولون عن اتصالاتهم بشخصيات مصرية رفيعة المستوى في الأيام الأولى بعد اكتشاف الحادث، بما في ذلك قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، وذلك لنسج سردية مُحكمة تؤكد سعي القاهرة منذ يوم اكتشاف الجثة إلى إخفاء الحقيقة وتضليل الإيطاليين، لولا الضغوط السياسية المبكرة التي مورست لتطوير تعاون قضائي حقيقي بين البلدين.

يشار إلى أن الضباط المصريين الأربعة المتهمين بخطف وتعذيب وقتل ريجيني هم اللواء طارق صابر، والعقيد آسر كمال، والعقيد هشام حلمي، والمقدم مجدي عبد العال شريف. وأصبح صابر حالياً مساعد وزير الداخلية للأحوال المدنية، وكان خلال الواقعة يعمل مدير قطاع في جهاز الأمن الوطني، وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني بناء على تقرير رفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية وتواصله مع نقيب الباعة الجائلين، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر.
أمّا الضابط الثاني، وهو العقيد آسر كمال، والذي كان يعمل رئيساً لمباحث المرافق بالعاصمة، وتوجد دلائل على أنه هو الذي أشرف على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام، فقد تمّ نقله بعد الحادث بعدة أشهر للعمل بمحافظة أخرى. أما المقدم مجدي شريف، فقد سبق ونشر ادعاء روما اسماً رباعياً تقريبياً له هو "مجدي إبراهيم عبد العال شريف"، وهو الذي أبلغ ضابطا أفريقيا بأنه سمع منه حديثاً عفوياً أثناء تدريب للضباط الأفارقة في كينيا عام 2017، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو "الشاب الإيطالي" كما وصفه، إلى حد القول إنه "لكمه عدة مرات" بسبب "الاشتباه في كونه جاسوساً بريطانياً".
وتتجه التحقيقات الإيطالية إلى أن مجدي شريف شارك ثلاثة ضباط آخرين، غير المشتبه فيهم، في إدارة ملف ريجيني، وأنهم جميعاً قاموا بتكوين شبكة من المخبرين حول ريجيني، والتي تضم - حسب السيناريو الإيطالي - كلاً من زميلة ريجيني المقربة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد، ونقيب الباعة الجائلين. وفي ختام تحقيقاتها، فجرت النيابة العامة المصرية مفاجأة، بحديثها للمرة الأولى عن احتمال مزعوم باستغلال مجهولين للتحركات المريبة المنسوبة لريجيني لخطفه وإيذائه وتعذيبه وقتله، لإلصاق التهمة بالأمن المصري، والإساءة للعلاقات بين القاهرة وروما، بالتزامن مع ذكرى ثورة 25 يناير وزيارة وفد اقتصادي كبير لمصر.
ووصفت النيابة سلوك ريجيني بأنه كان مريباً، وقالت: "وفقا لتحريات أكثر من جهة أمنية، كان من بين ما أسفرت عنه اتصال المجني عليه، في إطار إجراء بحثه العلمي، بعدد من أعضاء النقابات المستقلة من ذوي المهن الحرة وبعض الباعة الجائلين والمنتمين إلى تيارات سياسية مختلفة، ووجوده في أماكن تجمعاتهم، وتطرقه في أحاديثه معهم إلى انتقاد سلوك بعض التيارات السياسية بالبلاد، وأسلوب تعاملها مع الحراك السياسي، وتصريحه بخشيته من خطورة بعضها على استقرار الأوضاع بمصر، وأنه تحدث إلى الباعة الجائلين عن نظام الحكم في مصر، مؤكداً لهم أن بيدهم تغيير الأوضاع فيها أسوة بما حدث في دول أخرى". واستعدت القاهرة لقرار محتمل بالقبض على الأربعة، أو إلزامها بتسليمهم، بإصدار قانون يسمح للحكومة بأن تطلب من المحكمة الدستورية العليا تعطيل قرارات المحاكم الأجنبية وقرارات المنظمات الدولية ضد مصر، بحجة مخالفتها للدستور المحلي.