عبد الله الشافعي
الإنسان كائن اجتماعى، خلقه الله منتميًا بطبعه، يرتبط بغيره من الناس فى علاقات مختلفة الأشكال والدرجات، منها علاقات القربى والرحم، وعلاقات النسب والمصاهرة، وعلاقات الصداقة والجوار، وعلاقات العمل وغيرها من صور العلاقات الإنسانية، مرورًا بعلاقات التنافس ما كان محمودًا منه والمذموم، وصولًا إلى علاقات العداوة.
وتبقى قيمة الإنسان الحقيقية ووزنه المعتبر وتقديره الأهم - فيما يمثله هذا الإنسان من قيمة، فى كل هذه العلاقات، وهل هو قيمة مضافة إيجابية، يشعر محيطه ودائرته بفقده أوغيابه شعور الخاسر الذى ينقصه ركن مهم؟ أم هو قيمة مخصومة سالبة، يرتاح محيطه ودائرته منه عند الغياب أو الفقد، بل وربما يسعون إلى ذلك سعيًا؟ أم أنه يساوى صفرًا فى نهاية المطاف، فلا لون ولا طعم ولا رائحة! ولا أهمية ولا قيمة، ولا فرق بين وجوده وعدمه؟ غيابه وحضوره سواء؟
قيمة الإنسان فى أثره، فى كيف ومقدار ما يحدثه، قيمة الإنسان فيما ينتجه من قول وفعل وسلوك، قيمة الإنسان تتجلى فى محيطه الذى يتفاعل معه ودائرته المتصلة به، وبالتالى فإن هذا المحيط هو أصدق الحكام عليه، وهم أولى الناس بهذه المهمة، ولذا فالعاقل من يتواضع ويتفحص حكم هؤلاء عليه، ومدى تقبلهم ومقدار نقدهم وبم ينقدون، العاقل من لا يبالغ فى تقدير ذاته حتى يأتيه اليقين.
إن قيمة الإنسان تتغير بحسب الزمان والمكان والصحبة والظروف، فقد يكون الإنسان عالي القيمة فى وقت نشاطه وحضور همته العالية، أو فى مكان يدفعه للتميز والإنتاج، أو مع صحبة خير تعينه وتيسر له الرقى وأنواع الكمالات، وقد يساعده مزاج طيب على مثل هذا، وبالطبع قد لا يدوم على هذا الخير الكبير، فيتذبذب بين القيم المختلفة، وربما نقص قدره فصار لسبب من الأسباب ذا قيمة سلبية، وربما وجد نفسه فى بعض الأحيان يساوى الصفر الصريح.
هكذا تدور حياة الإنسان، بين علو وانخفاض، وتتغير قيمته حسب ذلك، فقد يعلو ويرتقى، ويقترب من الكمال، حتى تظنه مَلَكا من الملائكة، أو بطلا من الأبطال، ثم يبتعد قليلًا أو كثيرًا ، كل حسب همته وقدراته، وربما يظن من يرقب حاله أنه ليس نفس الشخص، فقد يراه على غير الصفات والأخلاق، وهنا يجدر بنا أن نتدارس حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا صلة بما نتحدث عنه، ففى الصحيحين عَنْ أبى ذَرٍّ جُنْدبِ بنِ جُنادةَ - رضي الله عنه - قال: قُلتُ يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: {الإيمانُ باللهِ، والجهادُ في سَبيلِهِ}. قلتُ: أيُّ الرِّقابِ أفضلُ؟ قال: {أنْفسُها عند أهلِها، وأكثرُها ثمنًا}. قلتُ: فإنْ لم أفعلْ؟ قال: {تُعين صانعًا، أو تصْنعُ لأَخْرقَ}. قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إنْ ضَعُفتُ عن بعضِ العَمَلِ؟ قال: {تَكُفُّ شرَّكَ عن الناسِ؛ فإنَّها صدَقةٌ مِنْكَ عَلَى نَفسِكَ}.
ففى هذا الحديث العظيم بيان لتلك الحقيقة المشار إليها، إلا وهى اختلاف حالات الإنسان، وبالتالى اختلاف قيمته وقدره عند الله وعند الناس، ولا ريب أننا مطالبون بالسعى نحو الكمال، سعيًا يُرضى عنه الله سبحانه ويرفع عنا الحرج، ولكن الحقيقة الكبرى التى نتعلمها هنا، حقيقة أننا ربما لا نستطيع الثبات على درجة من الدرجات العلى طوال الوقت، ربما تضعف الهمة، ربما تكل الروح، ربما تتمرد النفس، فماذا نفعل؟
نهتدى بهدى رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، ونتمسك بوصيته، ألا وهى: (أن نكف عن الناس شرورنا) ألا ننحدر تحت الصفر الـتأثيرى، ألا نكون مصدر شر وألم، ألا نكون خسارة وعبئًا على من نتعامل معهم ويتعاملون معنا، إن كف الأذى عن الناس عبادة، وهى أقل ما يمكن أن نقدمه حين لا نستطيع النفع وفعل الخير.
وفى هذا الحديث تجد واقعية المنهج الإسلامى وطموحه العالى فى الحديث الواحد، فقد بدأ أبو ذر بسؤال النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، أى الأعمال أفضل وأى الرقاب أفضل، ثم تدرج فى السؤال الواقعى المنتظر من كل الناس، وماذا إن لم يستطع أحدنا بلوغ هذه القمة السامقة؟ ماذا نفعل يا رسول الله حين لا نجد إلا ضعفنا، أو حين تتكاثر من حولنا العقبات؟ أو تبرز إلينا الفتن المقعدات؟
هنا يرسم لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم حد الأمان، ويا له من رسول عظيم لا ينطق عن الهوى! ويا له من دين عظيم ربانى المصدر والغاية والمنهج! لا يأتيه الباطل ولا يعلى عليه، فحد الأمان فيه كف الاذى، وكف الأذى صدقة يتصدق بها المرء على نفسه، والذى يملك نفسه ليكفها عن أذية غيره فقد ارتقى فى الكمالات درجات ودرجات، لذا فقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنى، ولو كان فى غير الإسلام لعد هذا من الأبرار الواصلين، لكن ديننا يهتف بالإنسان ويردد هتافه بكل وسيلة، ليرفعه إلى أعلى الدرجات وأرقى الكمالات، دون إهدار لطبيعته وما يحيط به. فأولى بكل عاقل أن يتدبر فى أثره وما ينتج، وأن يراجع قيمته وقدره، فإن لم يستطع اليوم إلا أن يكف أذاه فليفعل وله بذلك صدقة.