بقلم: محمد علي

قال أبو تمام الطائي

أَبَا جَعْفَرٍ إنَّ الجَهالَة َ أُمُّها … وَلُودٌ وأُمُّ العِلْمِ جَدَّاءُ حائِلُ

أَرَى الحَشوَ والدَّهْمَاءَ أضحَوْا كأَنَّهمْ … شُعُوبٌ تَلاقَتْ دُونَنَا وقَبَائِلُ

غَدَوْا وكأنَّ الجَهْلَ يَجْمَعُهُمْ بهِ … أبٌ وذوو الآدابِ فيهمْ نواقِلُ

المتابع للشأن المصري يلحظ التواطؤ على تضخيم أقزام، لم يكن لهم من قبل ذكر ولا قيمة. وتصدرت أخبار هؤلاء الأقزام الصحف والقنوات، فشغلت حيزا من حياة الناس طوعًا أو كرهًا.

منذ أيام، أقيم فى مصر مهرجان سينمائي، وبعيدًا عما جري داخل المهرجان، فإنني أتساءل، ومن حق كل عاقل أن يتساءل: كيف نمت هذه الكائنات فى مجتمعاتنا؟ وكيف ملأت كل هذا الحيز المكاني والزماني؟

حاولت نقابة المهن الموسيقية فى مصر وقف التمدد السرطاني للأغنية دون الشعبية (المهرجانات)، ولكن دون جدوى، إذ نرى طوفان ما يسمى زورا بـ"المهرجانات" يُغرق الشوارع والأفراح، ويطمس فيها كل خلق جميل وأدب رفيع، ويقتل فيها الحياء بلا رحمة أو مقاومة.

وتزدحم منصات التواصل الاجتماعي بالمتابعين لهذا الغثاء، ورغم صدور بعض الأحكام القضائية ضد بعضهم، لمخالفتهم الآداب العامة. إلا أنهم مازالوا فى غيّهم يعمهون، وفى القاع يترددون.

أين المشكلة؟

الأولى: فتنة العامة وشيطنة المجتمع

قيل إن الأصمعي سأل أحد الأعراب: كيف هذا الرجل فيكم؟ قال: مرزوق أحمق.

وقال جحظة البرمكي:

 قُلتُ لما رَأَيتُهُ في قُصورٍ   مُشرِفاتٍ وَنِعمَةٍ لا تُعابُ

ربِّ ما أَبيَنَ التبايُنَ فيهِ     مَنزِلٌ عامِرٌ وَعَقلٌ خرابُ

هنا تكمُن المشكلة، فتنة العامة وشيطنة رغباتهم، وتشويه فطرتهم التي فطر الله الناس عليها، فطرة الستر والرضا والعمل والعلم، وتحويلهم نحو التعري والطمع والسفه والجهل. فهؤلاء التوافه الجهلة الحمقى هم المرزوقون فى هذا الزمان، أليست هذه فتنة وأىُّ فتنة؟!

الثانية: مصير العلماء وجزاء السفهاء

يتواتر أمام أعين الناس حياة التعفف التي يعيشها العلماء وأساتذة الجامعة، بينما ينعم السفهاء بكل العناية والرعاية من الحكومات وكل الاهتمام من المتابعين، فلا حاجة أن تتعب نفسك فى التعلم، فلن تجني الكثير وربما انتهي بك المطاف خلف القضبان.

ولأن الأمثلة تربو على الحصر، وتُدمي القلب من الصبح إلى العصر، فيكفيك أن ترى الحال فى بلاد الحرمين، وتدقق فى أسماء العلماء المعتقلين وتتفحص أحوالهم، وتقارنها بأحوال الراقصين والراقصات المستَجلبين من شتي المستنقعات من جميع دول العالم، تحت عنوان "هيئة الترفية".

الثالثة: تقديم النماذج المدمرة للمجتمع

تمتلئ صفحات الأخبار ونشرات التلفزيون بأخبار البطولات الوهيمة لهؤلاء الأقزام، وبالطبع أخبارهم تملأ صفحات الحوادث، بحوادثهم اللا أخلاقية والمخلة بالشرف، ولا أعرف من يأتي هؤلاء بهذا القدر من البذاءة والبلادة والسماجة، ثم "التناحة" فى التجرؤ بالظهور أمام الناس مرة أخرى؟!.

عندما يكون هؤلاء نماذج وقدوات للمجتمع فمن الطبيعي أن يتحول المجتمع إلى غابة بشرية، فكل يوم تزداد معدلات الجريمة على نحو يشير إلى أن أخبار هؤلاء وحياتهم ومنتجاتهم الفنية الأفينة، أصبحت مسارا يغشاه كل مجرم منحرف.

الرابعة: إفساد الذوق وتبديل الموازين

كان الأدباء والشعراء يتبارون فى أعمال أدبية، تهذب الأخلاق وترقق المشاعر وترقى بالذوق العام، ولكن مع ما نشاهده من انحلال وما نسمعه من تبجح فى الفجور، فما ظنكم بالذوق العام؟!!

تُظهر الموازين المتبعة من الحكومات والمجتمعات الآن تجاه المشاهير والعلماء، أهمية أكبر للجهل والسفه مقارنة بالعلم والعمل، فلا عليك أن تفكر أن تحصّل العلم، فحتى وإن حصدت جائزة نوبل، فلن تبلغ من المجد والشهرة عشر معشار ما يبلغه لاعبو الكرة، أو الممثلين، أو الراقصات، أو أى أحمق آخر قادر على التسافل فى أى مستنقع.

"إنكم لفي زمن أهون شيء عليه القلم، وإن الصباح ليخرج عليكم من جنبات الأفق بشهوات كثيرة تجعل الحياة عندكم عملا في استخراج أسباب المتاع باستخراج الدينار والدرهم، وإن الليل ليظل عليكم بشهوات أخرى تجعل الحياة إفناء لعمل النهار، فإذا كان نهاركم إحياء الدينار والدرهم، وليلكم إفناء الدينار والدرهم ، فأين تجد يابنى عمل القلم ؟ وأين تجد من يبالى بعمل القلم؟"  (محمود شاكر_جمهرة المقالات_الجزء2_ص873)

فإذا أصبحنا فى زمن لا قيمة فيه لعمل القلم، ولا سبيل فيه لسلامة القلب، ولا أمل فيه لطمأنينة النفس، ولا مناص فيه من تلوث الروح وفساد التذوق، ولا عائد فيه من العمل الشريف الجاد، فلا نجاة لنا فى الدنيا ولا فى الآخرة. وإلى الله عاقبة الأمور.