ويتحدث العلامة الدكتور يوسف القرضاوي عن الحركة الإسلامية في مجال التربية والتكوين فيقول:

التربية الإيمانية هي الأساس

إن التربية هي المدخل الأساسي والضروري لأي حركة إسلامية تعمل على تغيير الواقع بتغيير ما بالأنفس، والذي أركز عليه هنا، في مجال العمل التربوي هو تكوين الطليعة المسلمة المرجوة لنصرة الإسلام، والتي تمثل في عصرنا دور الصحابة في عصر النبوة.

وأول مقومات هذه الطليعة هو: الإيمان ـ وأعني به إيمان القرآن والسنة ـ أخلاقه وشعبه التي نيفت على السبعين، وألفت فيه كتب مستقلة. فليس الإيمان إذن بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.

ليس المقصود بالإيمان هنا مجرد معرفة ذهنية لا تنفذ أشعتها إلى القلب فتضيئه، ولا إلى الإرادة فتحركها، ولا مجرد حشو الذاكرة بعبارات ومصطلحات عن معاني: الرب والإله، والدين والعبادة، والتوحيد أقسامه، والطاغوت والجاهلية، والامتلاء عُجْبا وغرورا بأن هذا هو كل الإيمان، ومحض اليقين، وشغل الآخرين بمعارك جدلية حول هذه الألفاظ، على أهميتها.

فإن هذه المراء أو الجدل لا ينشئ إيمانا كإيمان سحرة فرعون حين آمنوا برب هارون وموسى، ولا كإيمان الصحابة حين صدقوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإيمان المنشود هو الإيمان الأول، كما جاء به القرآن والسنة.

وحسبي هنا من القرآن آية واحدة، ذكرها القرآن الكريم ردا على الأعراب الذين قالوا: آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وهي قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون) (الحجرات:15).

ومن السنة الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار".

وقد يكفي بالنسبة للقاعدة الشعبية المؤيدة نصف الإيمان أو ربعه، ولكن بالنسبة للطليعة القائدة، لا بد من الإيمان الحق، ولا يكفي أنصاف المؤمنين ولا أرباع المؤمنين.

كان الشهيد حسن البنا يقول لتلاميذه: إيتوني باثني عشر ألف مؤمن وأنا أقتحم بهم الجبال، وأخوض بهم لجج البحار، وأفتح بهم الأقطار.

ولكن هل مثل هذا العدد يكفي لتحقيق الأهداف الكبيرة والآمال العريضة للأمة الإسلامية؟، أنا هنا أقول: نعم إنه يكفينا اثنا عشر ألفا إذا كانوا من المؤمنين حقا. كما أقول: إنه لا يغني عنهم أربعة وعشرون ألف نصف مؤمن، ولا ثمانية وأربعون ألف ربع مؤمن، ولا ستة وتسعون ألف ثمن مؤمن، ولا ملايين من "كسور" المؤمنين الذين قال فيهم الشاعر:

يزحمون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل!

إننا نريد مؤمنين يوصفون بما وصف به الأنصار - رضي الله عنهم-: يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع!

أما الذين وصفوا في حديث ثوبان بأنهم ة كغثاء السيل، فلا يصلحون يوما أن يكونوا الطليعة المرجوة، وإن عدوا بالملايين.

إن التربية الإيمانية أو الربانية هي الشرط الأول لتخريج جيل ينتصر به الإسلام.

وهو الموصوف في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (المائدة:54).

قدر من التربية الصوفية السليمة

وهنا لا بد من قدر من التربية الصوفية السليمة المقومة بميزان الكتاب والسنة والتي تعمل على تكوين الشخصية الربانية التي تؤثر الخالق على الخلق، والآخرة على الدنيا، وباعث الدين على باعث الهوى.

والتصوف ليس كله شرا، كما يتصور بعض الناس، والمتصوفة ليسوا كلهم ضلالا، كما يدعي من ينقصهم العلم أو العدل. بل هم كغيرهم من الطوائف كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن (الفقراء) ففيهم المستقيم والمنحرف، وفيهم الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات بإذن الله.

ولا شك أننا نرفض أباطيل التصوف الفلسفي (القائل بالحلول والاتحاد)، وشطحات التصوف البدعي، وانحرافات التصوف الارتزاقي. ونريد لباب التصوف الذي كان عليه الزهاد الأوائل، كالحسن البصري والفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وأبي القاسم الجنيد، وأمثالهم.

إننا نريد التصوف السني الملتزم بالنهج القرآني النبوي المتوازن، والذي يعنى بـ (تقوى القلوب) قبل (أعمال الجوارح) وبروح العمل قبل صورته. وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

ويعنى بعلاج أمراض القلوب وسد مداخل الشيطان إليها، وجهاد أهواء النفس؛ حتى تتهذب أخلاقها، وتتحلى بالفضائل، وتتخلى عن الرذائل.

وقد لخص بعضهم التصوف بأنه: الصدق مع الحق، والخلق مع الخلق، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (النحل:128). فهم مع الله بالتقوى، ومع الناس بالإحسان.

ونقل العلامة ابن القيم عن متقدمي الصوفية قولهم: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف!

وعلق ابن القيم على ذلك بقوله: بل الدين هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين !

وهذا صحيح، وحسبنا في ذلك الحديث النبوي الشريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".