إلهي..

هكذا كانت إرادتك وسنتك في الدعوات أن يتعرَّض سالكو طريق الدعوة إلى المحن والابتلاءات؛ امتحانًا وتمييزًا وتمحيصًا وغير ذلك من الحكم التي قد يظهر لنا بعضُها ويخفي علينا الكثير، فقد قلت وقولك الحق: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت)، وقلت: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ.... (آل عمران: 179) وقلت: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)(محمد) وقلت: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) (آل عمران) وقلت: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)(البقرة) وغير ذلك من الآيات كثير.

 * لقد تعرَّض حبيبك وأكرم الخلق عليك إلى الإيذاء الشديد من المشركين، وصبَر على ذلك، ولو شئت لحميته وصحابته من ذلك، ولكن أردت أن يكون لنا قدوة على الطريق عندما نتعرَّض إلى التعذيب، فنصبر كما صبر دون تفريط في أمر من أمور ديننا.

 ولقد تعرَّض صحبُه الكرام كذلك إلى التعذيب فصبروا حتى استُشهد ياسر وزوجه سمية- رضي الله عنهما- تحت التعذيب، دون أن تلين لهم قناة أمام غطرسة الشرك، وكذلك تعرَّض بلال وغيره وما زادهم الإيذاء إلا صقلاً وتمحيصًا وصلابةً وتمسكًا بدينهم.

 * نعلم يارب أن المحن والابتلاءات جزءٌ أساسيٌّ من طريق الدعوة وأنها خيرٌ لأنها سنتك وإرادتك وأنت لا تريد إلا الخير، ففي ظل المحن تتطهَّر القلوب من الأهواء، ويتخرَّج الرجال المؤمنون الذين يكونون بمثابة الدعائم الصلبة في الأساس ليقوم عليها البناء ويعلو في استقرار وصمود أمام كيد الأعداء.

 * إلهي.. تعرَّض رسولك وصحبه إلى الإيذاء والتعذيب وصبروا بتصبيرك لهم وثبتوا بتثبيتك لهم، حتى جعلت لهم مخرجًا بالهجرة إلى يثرب، ثم منَنْتَ عليهم بعد ذلك ببدر وما حقَّقت لهم فيها من نصر، فكانت فاصلةً بين مرحلة الإيذاء والاستضعاف ومرحلة العزة والتمكين، فيارب.. صبِّرنا كما صبَّرتهم، وثبِّتنا كما ثبتَّهم، واجعل لنا مخرجًا، وامنُن علينا ببدرٍ أخرى، بل ما أحوجنا إلى بدر في كل قطر من أقطارنا الإسلامية، وما ذلك عليك بعزيز، تُطوَى بها فتراتُ الإيذاء والاستضعاف وتبدأ فترة العزة والتمكين.

 إلهي.. قد عاهدناك على الجهاد في سبيلك والنصيحة بكل ما نملك من نفس ومال ووقت وجهد، وأن نقدم للدعوة كلنا لا بعضنا بمقتضى الصفقة الرابحة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ... (التوبة: من الآية 111) تشمل ما يتصل بها من وقت وجهد وصحة وعلم وغير ذلك.

 اللهم يسِّر لنا الوفاء بهذا العهد، فلا نجبن ولا نثاقل عن الجهاد ولا نبخل بنفس أو مال في سبيلك، فالفتن كثيرة وجواذب الأرض تملأ حياة الناس، وإننا نشفق على أنفسنا كلما قرأنا إنذارك الشديد بالعذاب أو الاستبدال لمن يثاقلون أو يبخلون.. في قولك الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) (التوبة) وقولك العزيز: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) (محمد).

 * إلهي.. كيف نبخل بنفس أنت صاحبها أو بمال أنت مُوهبه؟ وكيف نحرم أنفسنا هذا البيع الرابح والثمن الغالي؛ نتيجةَ بخل بنفس ستموت لا محالة ومال سنتركه وراءنا ثم نحاسَب عليه؟!

 * إلهي.. لقد طغى الظالمون وتجبَّروا واستوردوا كل حديث من وسائل التعذيب وأجهزته وأذاقوا عبادك المؤمنين على طريق الدعوة ألوانًا من الإيذاء والتعذيب تقشعر من ذكرها الأبدان، فالاعتقال والسجن والتفزيع والتشريد والتعذيب بصنوفه والقتل بسياط التعذيب أو على أعواد المشانق أو بطلقات الرصاص أو تحت أنقاض ما نسفوه من منازل أو مساجد أو في الحفر التي دفنوهم فيها أحياءً، بالإضافة إلى ما تعرض له الأخوات المسلمات لمثل ذلك من صنوف الإيذاء والتعذيب والقتل وغير ذلك مما يؤلم النفس ولا يساعدني القلم على ذكره.

 لقد ظن الطغاة أنهم لن يتعرَّضوا إلى أي مساءلة دنيوية أو أخروية على أفعالهم هذه؛ ففجَروا في بطشهم وتنكيلهم بالدعاة إلى الله، حتى كاد الناس أن يُفتَنوا.. نعلم يارب أنك لهم بالمرصاد، ولست بغافل عما يعمل الظالمون، ولكنك تؤخِّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.. نعلم أنك تمهل ولا تهمل.

 * إلهي.. إننا نبثُّ شكوانا اقتداءً برسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم بعد ما أوذي في الطائف.. نشكوا إليك يارب ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربنا- يا أرحم الراحمين- إلى مَن تكلنا؟ إلى بعيد يتجهمنا أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمرَنا؟ إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نبالي ولكن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بنا سخطك أو يحل علينا غضبك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.

* يارب.. نلجأ إليك بالدعاء وسط هذا الظلم والظلام كما لجأ إليك عبدُك ونبيُّك يونس عليه السلام من بطن الحوت في ظلمات البحر وظلام الليل، ندعوك يارب ونقول لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وكلنا أمل يا رب أن تنجيَنا من الغمِّ ومن هذا الظلم والظلام كما نجيته يا رب العالمين.

 * يا رب.. ندرأ بك في نحور الجبارين الظالمين ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اكفنا شرَّهم واصرف عنا أذاهم ﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (يونس:85، 86) اللهم اكفناهم بما شئت وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير.

 * لقد ظنوا أنهم يحاربون أشخاصنا وأجسامنا هذه الضعيفة التي جعلوها أهدافاً لسياطهم ورصاصهم ومشانقهم، ولكنهم واهمون مخطئون، إنهم في الحقيقة يحاربونك ويحاربون دينك في أشخاصنا، فقد بعنا أنفسنا لك وليس لأشخاصنا حظٌّ دنيوي ننازعهم فيه، فأنت الذي تذود عنا وتدافع عنا وتنتقم لنا إن شئت أو تعفو إن شئت، لا نتألَّى عليك، فإن شئت عذبت الظالمين وإن شئت تُبت عليهم، فقد قلت لرسولك من قبل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)(آل عمران) وقلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) (البروج).

 *إلهي.. إن الظالمين والمظلومين كلهم عبيدك، تعذب من تشاء وتغفر لمن تشاء بعدلك وحكمتك ورحمتك، وما أنت بظلام للعبيد، ولا تُسأل عما تفعل، ومن باع نفسه لله فلا حقَّ له عند من آذاه، فالحقُّ حقك يا رب، إننا ننظر إلى هؤلاء الظالمين على أنهم تعساء بائسون، غلبتهم أنفسهم وزيَّن لهم الشيطان الظلم، وعرَّضوا أنفسهم بذلك إلى جزاء الظالمين، وكان من الممكن أن نتبادل معهم المراكز فنكون نحن الظالمين وهم المظلومين فنحمدك يا رب أن قدَّرت لنا ألا نكون الظالمين فنتعرَّض لغضبك وعذابك، بل كنا المظلومين الذين وعدت بنصرهم وبأجرهم على صبرهم.

 * إلهي.. ما أحوجَنا إزاء هذا الظلم إلى الصبر!! فأفرغ علينا صبرًا نستعين به على هذا الظلم فقد دعوتَنا في كثير من الآيات القرآنية إلى الصبر فقلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) (البقرة) وقلت: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ (الفرقان:20) نصبر بعون منك وقلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) (آل عمران).

 * إلهي.. لقد صبَّرتنا فصبرنا وثبَّتنا فثبتنا ولا نُرجع شيئًا من ذلك إلى أنفسنا أو إلى قُدرتنا، ولكننا نُرجع ذلك كله إليك، فالفضل منك وإليك، فقد قلت لنبيك عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ (النحل: من الآية 127)، فاللهم صبرًا من عندك.

 * إلهي.. لا تحرمنا أجر الصابرين فقد قلت: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: من الآية 10) ولا تحرمنا بهذا الصبر معيَّتك فقد قلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: من الآية 153) إننا يا رب مستبشرون رغم هذا الظلم ونعلم أنه لا بد له من نهاية، ولا بد لهذا الليل من فجر وشروق، ونذكر كيف بشَّر رسولنا الحبيب المؤمنين في مكة عندمااشتكوا له شدة إيذاء قريش فقال لهم: "والله ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" وكلما قرأنا قول سيدنا موسى إلى قومه إزاء تهديد فرعون لهم بالعذاب حيث قال موسى لقومه: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) (الأعراف) استبشرنا واطمأنَنَّا فاجعلنا يا رب من المتقين وصبِّرنا وامنُنْ علينا بالنصر.

نقلا عن كتاب مناجاة على الطريق للأستاذ مصطفى مشهور  رحمه الله.