استكمالا  للأسباب التي تؤدي إلى التساقط أثناء السير في طريق الدعوة  يكمل الأستاذ فتحي يكن – حديثه في كتابه (المتساقطون على الطريق  كيف .. ولماذا ؟) أسباب التساقط بسبب الفرد نفسه ....[بتصرف ]

(7) فتنة السلاح : وأخطر ظواهر التطرف على الإطلاق ما اتصل منها باستعمال القوة فإنها تصبح آنذاك جائحة لا يقتصر ضررها على الأفراد وإنما قد يأتي على الحركة كلها ..

والساحة الإسلامية تشهد منذ فترة ليست بالقصيرة ظاهرة سوء استعمال القوة بسبب عدم التقيد بالضوابط والسياسات الشرعية في حال استعمال القوة .

وأذكر أننا عانينا في لبنان الأمرين من جراء هذه الظاهرة التي كانت تبرز عقب كل حادث تتعرض فيه الحركة لشدة، أو محنة، أو إيذاء، كما قد يكون بروزها أحياناً من قبيل محاكاة الآخرين وتقليدهم والتشبه بما يفعلون ...

وأرى لزاماً في هذه العجالة أن أقف عند أهم الإشكالات التي تتصل بمفهوم استعمال القوة والتي كانت موضع خلاف بين العاملين وسبب فتنة وبلاء وعامل استدراج الحركة إلى مقاتلها ..

أولاً : عدم وضوح الغاية من امتلاك القوة :

فقد يظن البعض أن الهدف من امتلاك الحركة لأسباب القوة هو إثبات وجودها على الساحة الإسلامية .

وظن البعض الآخر أن الهدف هو اجتذاب الشباب الذي يهوى القوى ويعشقها والذي قد لا تجتذبه الأفكار والقيم والمبادئ المجردة ...

والبعض الآخر يرى الهدف هو رد كل اعتداء يمكن أن يقع على الحركة سواء كان من حاكم أو حزب أو فرد .

وهذا المفهوم أو ذاك من شأنه أن يجر الحركة وأفرادها إلى مشاكل ومواجهات يومية لا تكاد تنتهي كما يمكن أن يخرج بها عن خط سيرها الأصيل وأن يعطل دورها الدعوى الرسالى الذي هو مبرر وجودها وبسبب قيامها ..

إن القوة الحسية في الحركة يجب أن تكون محكومة لا حاكمة ويوم تصبح القوة هي الحاكمة وهي الفاعلة يختل السير ويفقد التوازن وتضيع المعايير ...

فالقوة الحسية يجب أن تأخذ حجمها ومكانها المحددين في نطاق المخطط الإسلامي لتشكل مع بقية القوى حجم الحركة وقدرتها وفاعليتها التي يجب أن توضع في خدمة التغيير الإسلامي ...

فالغاية من امتلاك القوة ـ كل قوة ـ تحقيق التغيير الإسلامي فإقامة أمر الله وتطبيق شرع الله واستئناف الحياة الإسلامية بدليل قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } البقرة 193] وقوله صلى الله عليه وسلم ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله )) .

فاستعمال القوة الذي يخدم غير هذا الهدف من شأنه أن يستدرج الحركة إلى معارك جانبية قد تؤدى إلى هلكتها ...

لم يكن استعمال القوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ردات فعل عفوية، بل كان فعلاً مدروساً محكوماً بقواعد وأصول واعتبارات ومعطيات، متوافقاً مع طبيعة كل مرحلة وسياستها ونهجها ..

لم يكن كل عدوان على الجماعة المسلمة أو على أي فرد من أفرادها مبرراً لإعلان الحرب وشهر السلاح وبدء القتال... في المرحلة المكية تعرضت الجماعة المسلمة وتعرض نبيها وقائدها لحملات من الاضطهاد والأذى والتنكيل .

 ومع هذا لم تصدر الأوامر بالمواجهة أو القتال لأن المرحلة كانت مرحلة إعداد الطليعة المؤمنة إعداداً يؤهلها لمواجهة طويلة ودائمة وثابتة إعداداً يؤهلها لحسم كل مواجهة لمصلحة الإسلام ..

من هنا كان توجيه النبوة في هذه المرحلة توجيهاً يتوافق وطبيعتها وأغراضها بالرغم من الظروف الدقيقة الضاغطة وما نزول قوله تعالى في تلك الفترة الذات { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } إلا أمراً إلهياً مبرماً بالتزام طبيعة المرحلة وسياستها ..

ولم يكن ذلك بطبيعة الحال هيناً وسهلاً على النفوس ولكنها الدعوة ومقتضياتها ومصلحتها والتي يجب أن تعلو على كل اعتبار أو اجتهاد أو نزق شخصي .

ولقد روى أن عبد الرحمن بن عوف ونفرا من الصحابة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا : يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم )) .

وروى عن خباب بن الأرت وكان ممن يعذبون بالكي بالنار أنه قال: ((شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون" رواه البخاري

ثانياً : عدم التقيد بشروط استعمال القوة :

وفيما يلي أبرز الشروط تلك :

(أ) إفراغ الجهد بالوسائل الأخرى : حتى يكون استعمال القوة آخر الدواء ولقد أجمع العلماء على ذلك ...

- يقول العلامة الجصاص ((أمر الله بالدعوة إلى الحق قبل القتال )).

- ويقول العلامة الزمخشرى ((يبتدئ بالأسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب )).

- ويقول ابن العربي المالكي ((إن الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال وعين القتال عند البغي )).

- ويقول الإمام القرطبي ((فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعل وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل فإن زال بدون القتل لم يجز القتل )).

(ب) إناطته بالإمام وجماعة المسلمين :

وليس بالإفراد والعامة يقول العلامة القرطبي ((الأمر بالمعروف باليد على الأمراء وباللسان على العلماء وبالقلب على الضعفاء )).

- يمكن للأفراد استخدام القوة لمنع المنكر قبل وقوعه ما لم ينتج عنه مفسدة أكبر، أما بعد وقوعه فالأمر للإمام مباشرة المعصية، وأما بعد الفراغ منها فليس ذلك لغير الحاكم )).

وصرح الفقهاء : بأن استخدام القوة بعد الفراغ من ارتكاب المنكر جناية يؤاخذ عليها ..

ويقرر الإمام الغزالي في ذلك أصلاً كلياً فيقول: ((ليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر فلما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر لا حق وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية ))

(ج) أن لا يفضي إلى مفسدة أو فتنة: ففي الأثر ‎‎دع الخير الذي عليه الشر يربو )) والقاعدة الشرعية أن (درء المفاسد يقدم على جلب المنافع )). وفيما يلي نصوص مختلفة من تصريحات العلماء :-

يقول الإمام القرطبي: ((فإن لم يقدر أي على إزالة المنكر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه، وذلك إنما هو إلى السلطان لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجاً إلى الفتنة وآيلاً إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )).-

ويقول إمام الحرمين في شرح صحيح مسلم: ((يسوغ آحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته العمل إلى نصب قتال أو شهر سلاح فإن انتهي الأمر إلى ذلك ربط الأمر لسلطان)-

ويقول العلامة الزمخشرى: ((الإنكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها )) و أن لا يخرج عن السياسة الشرعية في هذا الأمر .... من ذلك :- عدم قتال العدو إذا تترس بين النساء والصبيان المسلمين وهو قول الأوزاعى والليث لقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌۢ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَآءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }(الفتح - 25).

- عدم التعرض للآمنين وغير المحاربين وللممتلكات وغيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اُغْزُوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً )) وفي وصية أبى بكر رضى الله عنه وهو يودع جيش أسامة قبل مسيره إلى الشام: (( لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد حبسوا أنفسهم في الصوامع للعبادة فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له )).

وكذلك صح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قوله: ((ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات ..عدم تعريض المسلمين للتهلكة بما يوجب ملاحظة قوة العدو وعدده .. يقول الإمام الشافعي (( ولا ينبغي أن يولّي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه، شجاعاً في بدنه حسن الأناة عاقلاً للحرب بصيراً بها غير عجل ولا نزق، وأن يقدم إليه وإلى من ولاه : أن لا يحمل المسلمين على مهلكة بحال، ولا يأمرهم بنقب حصن يخاف أن يشدخوا تحته ولا دخول مطمورة يخاف أن يقتلوا، ولا يدفعوا عن أنفسهم فيها، ولا غير ذلك من أسباب المهالك )).