ويتحدث العلامة الدكتور يوسف القرضاوي عن التركيز على تحري الصواب مع الإخلاص فيقول:

والمطلوب في تكوين الطلائع أن يتكامل فيهم الأمران: إخلاص النية، وصواب العمل .

إن الإخلاص وصدق النية مطلوب في كل عمل إسلامي، لأنه عبادة وجهاد، ولا تقبل عبادة ولا جهاد إلا بنية، كما ذكرنا من قبل، وهذا سر اهتمام علماء الأمة بحديث "إنما الأعمال بالنيات" حتى اعتبروه ربع الإسلام أو ثلثه أو نصفه.

ولكن هذا وحده لا يكفي لقيادة سفينة الحركة الإسلامية وسط الأمواج والأنواء والأعاصير، فلا بد ـ مع الإخلاص ـ من قدرة على معرفة الصواب من الخطأ، بل على معرفة أصوب الضررين، وأهون الضررين، وأرجح المصلحتين.

وقد قيل: إن العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، أما الحكيم فهو الذي يعرف خير الشرين، إن كان في الشر خيار.

صحيح أن المسلم مطالب بالاجتهاد والتحري، وأن المخطئ في اجتهاده معذور بل مأجور، ولكنه - كما بين لنا الحديث الشريف - مأجور أجرا واحدا على حين يؤجر المصيب أجرين: أجرا على تحريه وبذله وجهده، وأجرا على إصابته للحق، وإدراكه للصواب.

وإنما كان للمصيب أجران ليظل (تحري الصواب) نصب عين المجتهد فلا يفرط في الأجرين عاقل، ولا يرضى بالدون مؤمن.

وأحب أن أنبه هنا على أمرين أساسيين:

الأول: أن الذي ينال الأجر الواحد هو من كان أهلا لأن يدخل في زمرة المجتهدين، بأن يكون لديه الحد الأدنى من شروط الاجتهاد، ولا أعني بها هنا شروط الاجتهاد الفقهي المذكورة في كتب أصول الفقه، بل لكل موضوع يجتهد فيه شروطه الخاصة. فالذي يجتهد في الأمور السياسية غير الذي يجتهد في الشئون العسكرية، أو الاقتصادية أو التربوية، إلى جوار ما لا بد منه من الشروط العلمية أو الفكرية العامة.

فأما من هجم على أمر لا يحسنه، وحكم فيه بغير بينة ولا سلطان، فقد أساء إلى نفسه، وإلى موضوعه، وإلى الناس، ولم ينل من الأجر نقيرا ولا قطميرا، بل اكتسب إثما مبينا، لقوله بلا علم، وخوضه فيما لا اختصاص له به.

ولهذا جاء في الحديث: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة. رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار".

فجعل الذي يقضي على جهل في النار، كالذي يقضي بالباطل على علم، لأنه أدخل نفسه فيما لا يحسن، وكان الواجب أن ينسحب من موقعه ويدعه لمن هو أهل له.

بل مثل هذا وإن أصاب فصوابه غير محسوب له، لأنه رمية من غير رام، واجتهاد من غير أهله، فلا قيمة له، لافتقاده سلامة المنهج.

وفي هذا جاء الحديث: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ".

وإنما اعتبر هذا مخطئا، مع أنه أصاب بالفعل، لأن إصابته جاءت اعتباطا، ولم تجئ نتيجة لمنهج صحيح التزمه واتبعه. ومثل هذا الصواب الاعتباطي لا يعتد به.

الثاني: أن الذي يؤجر على اجتهاده، ولو أجرا واحدا. إنما يستحق ذلك إذا بذل كل جهده، واستفرغ كل وسعه، في تحري الحقيقة، وطلب الصواب، وموجب ذلك أن يستخدم كل الإمكانات المتاحة، وكل الوسائل المعينة، وكل المعلومات المتوافرة، للوصول إلى الصواب، كما عليه أن يستشير ويستعين بكل ذي خبرة، طلبا للرأي الأسد، والعمل الارشد.

إعداد القيادات للمستقبل
إن مشكلة الحركة الإسلامية في كثير من الأقطار أن القاعدة فيها أكبر من قدرة القيادة، ولا حرج علينا أن نعترف بذلك.

ذلك أن الصحوة الإسلامية المعاصرة قد اتسعت طولا وعرضا، وامتدت أشعتها مشرقا ومغربا، فاتسعت بذلك قاعدة الحركة الإسلامية وتنامت، ولكنها في عدد من البلدان لم تفرز قيادات تكافئ القاعدة المتصاعدة المتنامية، لا من الناحية الفكرية ولا التربوية ولا السياسية.

وهذا ما يجب على القيادات القائمة أن تحسب حسابه، وتمد له عدته في المرحلة القادمة.

وأول واجب هنا أن يعلم أن الإخلاص للدعوة أو التضحية في سبيلها أو السبق التاريخى في العمل لها، لا تكفي وحدها مرشحات لقيادة الحركة، وإن كانت مرجحات لها وزنها، وقيمتها عند الله وعند الناس.

ولكن لا بد من قدرات فكرية ونفسية وعملية ـ إلى جوار الشروط الإيمانية والأخلاقية والسلوكية الأساسية ـ تتوافر في القيادة المنشودة.

ولا أعني بالقيادة الشخص الذي يكون على قمة الهرم الإداري، بل المجموعة التي تخطط للعمل، وتحركه وتوجهه، وتفجر به طاقات كل العاملين معها؛ تشغلهم بالبناء عن الهدم، وبالعمل عن الجدل، وبالجد عن البطالة واللهو.

ولا يجوز أن تقف القيادات التاريخية عقبة كئودا أمام الدماء الجديدة، وأن تعتبر القيادة أمرا مؤبدا، وأن من دخلها لا يخرج منها، فتحول دون بروز المواهب الشابة، والقدرات الصاعدة.

ولا بد من اطراح الفكرة القائلة بأن القيادات تختار مدى الحياة، كما كان الأمر فى شأن الخلفاء الراشدين الذين أمرنا أن نتبع سنتهم.

فالصواب أن هذه السوابق التاريخية لا تعد شرعا ملزما للأمة إلى يوم القيامة، وقد ناقشنا ذلك في موضع آخر.

على أن الأمر المهم بل الضروري هو إعداد القيادات المنشودة للمرحلة القادمة حتى يتولى زمام الأمور كل قوي أمين، حفيظ عليم.

لا بد من إعداد قيادات فكرية، وقيادات تربوية، وقيادات سياسية.

وهذا ما يجب التفكير الجدي في اتخاذ أساليب والوسائل العملية لإيجاده والخروج به من حيز النظر إلى حيز التطبيق.

وأقترح لذلك إنشاء معهد يضم مجموعة من النوابغ المخلصين الذي تتوافر فيهم الصفات العقلية والنفسية والإيمانية والسلوكية، وأن يزكيهم عدد من الشخصيات المعروفة البصيرة بخصائص الرجال، وأن يعقد لهم بعض الاختبارات المتنوعة تحريرية وشفهية، حتى يقبلوا في هذا المعهد.

ويحسن أن يكون هذا المعهد داخليا، ليتعايشوا فيه، ويحيوا حياة ربانية علمية دعوية أخوية جهادية.

ويجب أن توضع لهذا المعهد مناهج تتسم بالشمول والعمق والتنوع، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة، كما تجمع بين العلوم الدينية والعلوم الإنسانية من منظور إسلامي، كما تهتم بدراسة الواقع المعيش محليا وعربيا وإسلاميا وعالميا، مع إعطاء عناية لواقع القوى المعادية لديننا وأمتنا ومسيرتنا ويلتقي في هذا المعهد العلم والعمل، والنظر والتطبيق.

كما يجب أن يختار لتدريس هذه المناهج من الأساتذة الثقات من يجمع بين العلم الموثق، والفكر الناضج، والإيمان الصادق، والبعد عن الإفراط والتفريط، وأن يكون هناك تكامل وتناسق بينهم بحيث لا يهدم أحدهم ما يبنيه آخر، ولا يشرق بعضهم ويغرب آخرون، أو يميل هذا إلى اليمين وذاك إلى اليسار، فتنشأ من ذلك بلبلة وتناقض واضطراب في الفكر والشخصية.

لا أعني أن يكون أمثال هؤلاء الأساتذة الكبار نسخا مكررة، بل أعني التوافق في الاتجاه العام وفي القضايا الكبرى والفلسفة الكلية.

ومن هنا أشير إلى بعض الملامح أو المعالم التي يتسم أو يتميز بها الفكر الذي نريد ترسيخه في هذا المنهج المأمول.