الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
يقول الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران:110)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة:143)، ﴿...وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون:8).

هكذا أراد الله للأمة الإسلامية هذه المنزلة الرفيعة من العزة والسيادة، وهذا الدور العظيم، وهو هداية البشرية إلى الدين الحق الذي ارتضاه الله للناس كافة.

وقد قامت بهذا الدور فترة من الزمان وأوجدت حضارة إسلامية ربانية لا تعدلها حضارة أخرى.

ولما قصّر المسلمون في التزامهم بتعاليم دينهم وضعف إيمانهم، ضعفت شوكتهم فطمع فيهم أعداؤهم وأجلوهم عن بعض الأقطار التي فتحها الإسلام، ثم غزواْ بلاد المسلمين بجيوشهم وصدهم المسلمون، ولكنهم عادواْ واحتلواْ معظم البلاد الإسلامية وأبعدواْ شريعة الإسلام عن الحكم، ونشرواْ الربا، والخمر والميسر، والزنا، وكل ألوان الفساد، بالإضافة إلى حملات التبشير، ولكنها فشلت في تحويل المسلمين إلى النصرانية، فلجئواْ إلى تفريغ المسلم من جوهر إسلامه: عقيدة وعبادة وخلقًا وجهادًا وغيره على الدين بنشر الانحلال، ثم تآمرواْ وأسقطواْ الدولة والخلافة، وبعد ذلك غرسواْ هذا الكيان الصهيوني الخبيث في قلب الأمة الإسلامية كالسرطان ليمزقها ويضعفها، وليكون كلب حراسة للأعداء بعد أن اضطرتهم الشعوب الإسلامية إلى جلاء قواتهم عن أراضيها. وحرَص الأعداء على إثارة الفرقة والنزعات القومية والطائفية، بل الحروب بين الأقطار والشعوب الإسلامية.

وتسلط الأعداء على مقدرات أقطارنا الإسلامية لتظل خاضعة لتخطيطهم بطريق مباشر أو غير مباشر من خلال أنظمة حكم تدين لهم بالتبعية. هكذا صار حال الأمة الإسلامية من الضعف والوهن والهوان والغثائية والتخلف والفرقة والحروب، وصار الدم المسلم من أرخص الدماء على وجه الأرض، وانتشر الفساد والانحلال وسوء الأخلاق بين أبناء الشعوب الإسلامية.
هذه الحال لا يرضى عنها أي مسلم غيور فديننا ليس دينًا فرديًا، ولكنه دين أمة واحدة، بل جسد واحد، إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، كما أنه ليس دين صوامع وعبادة فقط، ولكنه منهاج حياة كامل ينظم كل شئون الدنيا ويسخرها للحياة الباقية في الآخرة.

إن ديننا الإسلام يدعونا إلى الوحدة، وإلى القوة، وإلى العزة، وإلى الجهاد لرد عدوان المعتدين.
ويفرض علينا أن تكون لنا دولة وخلافة وشوكة لحماية المسلمين في كل مكان: حماية أرضهم وأرواحهم وأعراضهم وكل حرماتهم، وليقومواْ بنشر دين الله في أرض الله بين خلق الله.

هذا ما جعل الإمام الشهيد "حسن البنا" يرى ضرورة قيام المسلمين بإقامة دولتهم وخلافتهم، وأن الإسلام يفرض عليهم هذا الواجب الذي تمليه عليهم طبيعة هذه المرحلة التي تمر بها دعوة الإسلام، فأنشأ جماعة الإخوان المسلمين لتحقيق هذا الهدف الكلي الحتمي، والذي يعني في جوهره التمكين لدين الله في الأرض ودعوة الناس كافة إليه. ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾ (الأنفال:39).

ومن منطلق دراسته -رضوان الله عليه- لسيرة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وتاريخ الأمم والدعوات رسم الطريق لتحقيق هذا الهدف العظيم، وتدرج به إلى مراحل متدرجة ومتلاحمة تبدأ بإعداد الأفراد المسلمين القدوة رجالاً ونساءً، ثم بإقامة البيوت المسلمة القدوة، ثم المجتمع المسلم، وبهذا تتكون القاعدة الصلبة المتينة التي تقوم عليها الحكومة المسلمة، لتكون الدولة الإسلامية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية.

ووجد-رضي الله عنه- أن كل هذه المراحل تعتمد أول ما تعتمد على الفرد المسلم النموذج فنجده يتحدث عن الأمم الناهضة والمقومات الواجب توفرها بين أفرادها فيقول: إنها في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة حتى يصمدواْ لما يقف في طريقهم من عقبات، ويتغلبواْ على ما يعترضهم من مصاعب. إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وأن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس(انظر رسالة: نحن قوم عمليون). ثم يقول:(وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوى شديد بين الحق والباطل وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره، وعند الصباح يحمد القوم السرى، وليس للأمة عدة في هذا السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات والإقدام عند المُلِمّات، وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها) (انظر رسالة: نحن قوم عمليون).

بهذه الكلمات الدقيقة شَخَّصَ الإمام الشهيد الداء ووصف الدواء، وأوضح أن أول طريق لعلاج إحداث التغيير في النفوس فتلك سنة الله: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11). فكان اهتمامه الشديد بالتربية وبناء الأفراد رجالاً ونساءً.

ونجده عندما ذكر أركان البيعة وتعرض إلى الفرد المسلم في ركن العمل حدد مقومات عشرة يلزم توفرها في الفرد المسلم.

أولها وأساسها سلامة العقيدة، عقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام، ثم صحة العبادة، ومتانة الخلق، وثقافة الفكر، وقوة البدن، والقدرة على الكسب، والنفع للغير، والحرص على الوقت، وأن يكون منظمًا في شئونه، مجاهدًا لنفسه.

كما أوضح في رسالة: إلى أي شيء ندعو الناس أنَّ تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة، تتمثل في صفات أربع: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به، وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

هذه المقومات وتلك الصفات لا تكتسب بالسماع أو القراءة عنها فقط، ولكنها تحتاج إلى التربية والتوجيه والتعهد الدائم، لذلك تميزت دعوة الإخوان بالاهتمام بالتربية وإعداد الأفراد رجالاً ونساءً، ولها في ذلك وسائل متعددة خرجت ولا تزال تخرج نماذج طيبة للفرد المسلم القدوة أخًا كان أو أختًا، وكذلك البيوت المسلمة النموذج.

ومن ثمار تلك التربية استجابة الإخوان للجهاد في فلسطين ضد عصابات صهيون، ولولا التآمر الدولي وحل الإخوان في مصر لكان لقضية فلسطين شأن آخر.

وجاهدواْ في قناة السويس ضد الإنجليز، وظهرت بطولات رائعة في هذين الميدانين أذهلت وأفزعت الأعداء. ولا زالت هذه النماذج تبرز في ميادين الجهاد في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي.

وظهرت ثمار التربية أيضًا حينما تعرض الإخوان في أقطار مختلفة إلى محن وابتلاءات شديدة من سجن، واعتقال، وتعذيب، وتقتيل، وتشريد؛ فصبرواْ، وثبتواْ وواصلواْ مسيرتهم، وهم أكثر صلابة وتمسكًا بالحق الذي يناصرونه. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران:146).

نقلا من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله