بماذا تفسر أن تظل عصابة اغتصاب الأطفال وقتلهم ترتكب جرائمها البشعة في أنحاء مصر طوال سبع سنوات دون أن يشعر بها أحد، في حين أن بعض طلاب جامعة الأزهر لما قاموا باستعراضٍ احتجاجي لمدة نصف ساعة أمام مكتب المدير، فإن استنفارًا إعلاميًّا فوريًّا حدث، روع الخلق في بر مصر، أعقبته ضربة أمنية قوية، أسفرت عن القبض على 140 شخصًا.

 

(1)

من تابع الإعلام البريطاني خلال الأسبوعين الماضيين لا بد أنه لاحظ أنَّ الصحفَ ومحطات التليفزيون والإذاعة الخاصة والعامة شغلت بقضية سفاحٍ مجهولٍ قتل خمس مومسات في منطقة واحدة، وهو الحدث الذي هزَّ بريطانيا واستنفر أجهزة الشرطة وخبراء البحث الجنائي وأساتذة علم النفس والاجتماع، وقد ذكرت صحيفة "التايمز" أنه تمَّ تجنيد ألفي ضابط وشرطي لملاحقةِ الفاعل، كما أن فريقًا من الخبراء والعلماء عكفوا على دراسة شخصيته من خلال الجرائم التي ارتكبها ونوعية النماذج التي اختارها والأهداف التي تحراها.

 

ومن هؤلاء عالم النفس دايفيد كارتر الذي قال إن الرجل شديد الذكاء وبالغ الحذر، ورجَّح أن يكون مقتنعًا بأنه صاحب رسالة "تطهيرية"، وأن تكون دوافعه إلى ارتكاب جرائمه أخلاقية.

 

إذا قارنت هذا الاستنفار الأمني والمجتمعي الذي شهدته بريطانيا بالاسترخاء المفرط الذي تمَّ التعامل به في مصر مع عصابة اغتصاب الأطفال وقتلهم، فسوف يُجسِّد لك ذلك الفرق بين الجد والهزل؛ ذلك أنه يحق لنا أن نقول إن قتل 30 طفلاً وطفلةً في ست محافظات مصرية، على أيدي عصابة واحدة خلال سبع سنوات متتالية، إذا لم يكن خَبَره قد وصل إلى علم أجهزة الأمن، فتلك مصيبة، لأنه يعني أن تلك الأجهزة لا ترى ولا تسمع بما يجري على أرض الواقع.. أما إذا كانت قد علمت وغضت الطرفَ وسكتت فالمصيبة أعظم؛ لأنها في هذه الحالة تكون قد أهملت أهمالاً جسيمًا أقرب إلى التستر على الجرائم، والاحتمال الأول عندي أرجح- لماذا؟

 

الإجابة المختصرة لأنَّ أمر العصابة حين تمَّ اكتشافه بالصدفة البحتة، فإن أجهزة الأمن لم تُقصِّر في متابعة القضية وكشف أبعادها، فقد علمنا من التقارير الصحفية أن أحد أفراد العصابة أُلقي القبض عليه في مدينة طنطا بتهمة "التسول"، وحين تمَّ اقتياده إلى الضابط المختص، فإنه طلب منه أن يحميه من زعيم العصابة الذي كان يترصده لقتله بسبب مشكلةٍ بينهما، وإذْ سأله الضابط عن علاقته بالزعيم وعن نشاط العصابة، فإن الفتى أفاض في المسألة واعترف ببعض الجرائم التي ارتُكبت، وأرشد عن الأماكن التي أُلقيت أو دُفنت فيها جثث الضحايا، وكانت تلك هي الخيوط التي قادت إلى كشف المأساة وإلى اعتقال عناصرها، واحدًا تلو الآخر.

 

(2)

هذا التراخي الملحوظ في الكشف عن جرائم العصابة، كان له نقيضه في حالة طلاب جامعة الأزهر؛ لأنَّ الأعين التي نامت طوال السنوات السبع في الحالة الأولى، كانت مفتوحةً عن آخرها وهي تتابع ما يجري داخل حرم الجامعة، خصوصًا الاعتصام الذي قام به بعضُ أولئك الطلاب أمام مكتب مديرها، وهو الاعتصام الذي دعوا إليه تعبيرًا عن الاحتجاج ومحاولةً من جانبهم للفت أنظار الرأي العام لما تعرَّضوا له من مظالم، بدأت بمنعهم من الترشيح لانتخابات اتحاد الطلبة وانتهت بفصل ثمانية منهم، غير أنَّ الأمور سارت في اتجاهٍ مغاير، أو قُل إنها قُرئت على نحوٍ آخر، بعدما نُشرت صورٌ لهم، بثتها إحدى المحطات التليفزيونية، وهم يمارسون لعبة "الكاراتيه" في حين ارتدوا ثيابًا سوداء وغطوا وجوههم بأقعنة مماثلة، ووُصفوا في خطابٍ الإثارة الإعلامي بأنهم "ميليشيا"!

 

قراءة الأجهزة الأمنية للحدث عبَّر عنها بيان الداخلية الذي صدر يوم الخميس 14/12، واعتبر مسلك الطلاب "منعطفًا خطيرًا" استهدف فرض أوضاع غير شرعية داخل الجامعة، عن طريق الحثِّ على التظاهر والتحريض على الخروجِ للطريق العام، في محاولةٍ للإخلال الجسيم بالنظام العام وانتهاك القانون.. إلخ.

 

الطلاب عبَّروا عن رأيهم في بيانٍ قالوا فيه إنهم أرادوا لفت الأنظار إلى قضيتهم، بعد مسلسلِ المظالم التي تعرَّضوا لها من قِبل الأجهزة الأمنية وإدارة الجامعة، "وأنَّ ما دفعنا إلى أجراء العرض التمثيلي ناتجٌ عن شعورنا بأن أحدًا لا يسمع صوتنا، ولا يتحرك من أجل المطالبة بحريتنا داخل الجامعة.. ولكننا أخطأنا في تقديرِ حركتنا، ولهذا وجب علينا الاعتذار.. لجامعتنا وأساتذتنا وزملائنا عن العمل الذي قُمنا به".

 

حين سألتُ مَن أعرف من أساتذة الجامعة عن حقيقة ما جرى، قالوا إنَّ الطلابَ المعتصمين لجأوا إلى شغلِ الوقتِ من خلال تقديمِ بعض العروض، فكان منها ما هو خطابي وما هو تمثيلي أو رياضي، والصور التي نُشرت لفقرة قدَّمها طلابُ التربية الرياضية بالجامعة.

 

رغم أنَّ ما سمعته صوَّر ما جرى بحسبانه فقرة عادية لم يكن لها علاقة بأي شكلٍ من أشكال العنف أو أدواته، فإنَّ أحدًا لا يُنكر أنَّ الفقرة لم تكن عادية وأن الاستعراض أيًّا كان تسميته جاء ساذجًا وغبيًّا، فتح الباب واسعًا للقلق والمخاوف، خصوصًا أنَّ الطلابَ ظهروا فيه بأرديةٍ وأقنعةٍ سوداء، قَلَّدوا بها شباب الانتفاضة في الأراضي المحتلة.

 

لقد تحوَّل المشهد إلى قضيةٍ يفترض أن يحسم القضاء أمرها، بما يحدد صواب أي من الرؤيتين أو خطئها، لكن المراقب لا يسعه في هذا الصدد إلا أن يسجل أنَّ حملةَ التصعيد والإثارة التي واكبت المشهد، وبدا فيها الخطاب الإعلامي منحازًا إلى التحريض والإثارة، ومتبنيًا، للقراءة الأمنية دون غيرها.

 

(3)

هل هناك علاقة بين قضية عصابة "التوربيني"- هكذا سُمِّي زعيمها- وبين قضية طلاب جامعة الأزهر؟ ردي على السؤال أنَّ ثمةَ علاقةً غير مباشرة، من أكثر من زاوية، فمن ناحيةٍ نجد في عصابة قتل الأطفال بعد اغتصابهم بعضًا من سمات "مصر الأخرى"، التي لا تُذكر في وسائل الإعلام إلا في صفحاتِ الحوادث، ولا يُشار إليها إلا مرتبطة بالكوارث والجرائم، وهي العالم الآخر الذي يقبع في المساحة المظلمة من صورةِ المجتمع، التي تخفي واقعًا عشوائيًّا تغيب عنه السلطة، وتكاد تحكمه شريعة الغاب.

 

ولأنَّ أهله هم ضحايا الفقر والبطالة وإهمال الدولة واستعلاء النخبة، فلا غرابةَ أن يصبح موطنًا للجريمة والرذيلة ومختلف تجليات التحلل الاجتماعي، ولك أن تذهب إلى أبعد وتقول إنَّ ما أقدمت عليه العصابة إذا كان قد صدم المجتمع المصري وأثار اشمئزاز وقرف كل شرائحه، إلا أنه ليس غريبًا ولا مفاجئًا تمامًا؛ ذلك أنَّ تقاريرَ منظمات حقوق الإنسان، التي تُسجِّل الانتهاكات التي يتعرَّض لها البشر، إذا أوقعتهم حظوظهم البائسة في أيدي مَن لا يرحم في المخافر والسجون والمعتقلات، لا تخلو من إفادات من هذا القبيل تترواح بين هتكِ العرض والقتل البطيء (هل تذكر شريط الصور الذي سجَّل هتك عرض أحد المواطنين في مخفر الشرطة بحي إمبابة؟)، الأمر الذي يعني عند التحليل الأخير أنَّ الاختلاف بين هذه الممارسات وتلك، هو في الدرجة فقط وليس في النوع.

 

وإذا كانت العصابة رمزًا لحالةٍ اجتماعيةٍ بائسةٍ طفحت على جسم مصر الأخرى.. فإنَّ ما أقدم عليه أولئك النفر من طلاب جامعة الأزهر يرمز إلى حالةٍ من الاحتقانِ السياسي الذي ينبغي أن تُفهم أبعاده ويُدرك سياقه.. صحيح أنَّ هذا السلوكَ شاذ وغريب على جامعاتنا، لكن من الصحيح أيضًا أنَّ الباحثين المنصفين لا يختلفون حول الظروف التي استدعته وأفرزته؛ حيث لا مفرَّ من الإقرار بأن هذا السلوك الشاذ نتاج ظروف شاذة مماثلة.. أن شئت فقل إنَّ الإسرافَ في التعبير عن الاحتجاج والغضب، هو رد فعل مباشر للإسراف في قمعِ الطلاب والتدخل الأمني في شئون الجامعات، وهو ما دفع كاتبًا نزيهًا مثل الدكتور عمرو الشوبكي إلى القول بأنه "إذا حُوسب المسئول عن إدخال البلطجية إلى جامعة عين شمس (لقمع الطلاب الذين حُرموا من الترشيح فلجأوا إلى إقامة اتحادٍ حر مواز)، فلا بد أن نُحاسب الميليشيات الطلابية السوداء على ما فعلته في جامعة الأزهر، برعونةٍ لا تعي خطورتها" (المصري اليوم 14/12).

 

(4)

في "أحلام فترة النقاهة"- الحلم رقم 203- التي تطبعها الآن "دار الشروق" مكتملةً، كتب الأستاذ نجيب محفوظ يقول: رأيتني أقرأ كتابًا وإذا بسكارى رأس السنة يرمون قواريرهم الفارغة، فتطايرت شظايا، وينذرونني بالويل، فجريت إلى أقرب قسم شرطة، ولكني وجدتُ الشرطةَ منهمكةً في حفظ الأمن العام، فجريتُ إلى فتوةِ الحي القديم، وقبل أن انتهي من شكواي هبَّ هو ورجاله وانقضوا على الخمارةِ التي يشرب فيها المجرمون، وانهالوا عليهم بالعصي حتى استغاثوا بي!

 

المعنى الذي أراد نجيب محفوظ توصيله أن "الأمن العام" في مفهوم رجال الشرطة ليس هو أمن الناس أو المجتمع، ولكنه أمن النظام، وعلى الناس أن يدركوا هذه "الحقيقة" وأن يتصرفوا على هذا الأساس، وملاحظته هذه صائبة وتُفسِّر لنا المفارقة التي نحن بصددها؛ حيث لم تنتبه الشرطة إلى عمليات القتل التي مارستها عصابة التوربيني طوال السنوات السبع التي خلت، لأنها كانت منشغلة "بالأمن العام" المتمثل في متابعة النشطاء السياسيين، الأمر الذي يجسد الاهتمام بالأمن السياسي دون الأمن الاجتماعي.

 

هذا التفسير رددته بعض التحليلات التي نشرتها صحف المعارضة، حتى أصبح أمرًا متعارفًا عليه ومسلمًا به، فضلاً عن أنَّ شواهد الواقع تؤيده، والانطباع السائد في المجتمع المصري الآن أن أغلب مخافر الشرطة أصبحت تستقبل بفتور وعدم اكتراثٍ بأي بلاغٍ تتلقاه حول قضية جنائية أو مدنية، لكنها تستنفر وتهرول، إذا كانت القضية سياسية أو كان البلاغ يُشكك في وجود رائحة للإرهاب في أي مكان.

 

ليس ذلك فحسب، وإنما بات مستقرًّا في أوساط الشرطة أن كفاءةَ الضابط أو القيادي، ومن ثَمَّ ارتقاءه واستمراره، ذلك كله يُقاس بمدى الإنجاز الذي يحققه في ملاحقة وإجهاض العمليات الإرهابية، فضلاً عن كفاءته في "التعامل" مع الإرهابيين بالأسلوب "المناسب"، وهو ما يدفع رجال الأمن إلى التفاني في اتجاه والتراخي في الاتجاه الآخر، وفي ظل ذلك الوضع فلا يستغرب إلا ترصد ممارسات عصابة "التوربيني"، بينما تسلط الأضواء القوية على ممارسات طلاب الجامعة، إذا بحكم ذلك المنطق، فإنه من حسن حظ الرجل وعصابته أنهم ليسوا في عداد "الإرهابيين"؛ حيث لم يفعلوا أكثر من أنهم اغتصبوا وقتلوا 30 طفلاً فقط!

 

أعرف صديقًا من أنصار نظرية المؤامرة، لاحظ المفارقة في موقف أجهزة الأمن في القضيتين، فحاول إقناعي بأنَّ المبالغةَ في تضخيم ما جرى في جامعة الأزهر ليست سوى فرقعة أريد بها ضرب عصفورين بحجر واحد؛ إذْ من شأن الفرقعة أن تصرف الانتباه عن الفشل الأمني في ضبط عصابة التوربيني في الوقت المناسب، كما أنها تُشكِّل غطاءً مناسبًا لتوجيه ضربة إجهاضيةٍ واستباقيةٍ تؤدب المشاغبين وتردعهم بعد تزايد الصداع الذي يسببونه للنظام في الآونة الأخيرة.

إلى هذا المدى ذهب البعض في التأويل والاستنتاج.

----------

* نقلاً عن جريدة (الوطن الكويتية) الثلاثاء 19/12/2006