الحكومات مجرد وسائل:

فالنظم والإداريات بل الحكومات والجمعيات والجماعات التي يسعى إليها الناس، إنما هي وسائل لتحقيق الأهداف، وليست غايات بحد ذاتها، وإنما تشرف هذه الوسائل بشرف غاياتها، وتقصد للحصول على قدر أكبر من تحقيق تلك الغايات التي يقصر عنها الجهد الفردي، فتكون الجماعة ويكون التجمع وتكون القيادة.

وبالتالي فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنقلب هذه الوسائل إلى غايات بحد ذاتها، وإنما يجب أن تبقى وسائل محكوماً عليها بمقدار ما تحقق من الغايات التي سبقت الإلماحة إليها، وهي تحقيق العبودية لله تعالى والفوز برضاه.

فليست غاية الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي بصوره المختلفة، الوصول إلى الحكم والسلطة بأشخاصه وبمختلف الطرق الشرعية وغير الشرعية، وإنما الحكم بحد ذاته لا يعدو في نظر المسلم أن يكون من وسائل تحقيق معنى العبودية، ونشر الدعوة وحمايتها في مدى أوسع ومساحة أشمل؛ ذلك أنه لمهم في نظر المسلم أن تتحقق المعاني التي يريدها الإسلام، ثم يتابع العمل الإسلامي سيره، وتلقى على عاتقه مسئوليات جديدة، ويتسع معنى تحقيق العبودية ويعظم التكليف وتصبح غاية ذلك كله الله (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) [الحج: 41].

إن المسلم إذا لم يف بهذه العبودية ويعطها حقها يصبح من شر الدواب كما بين القرآن  (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) [الأنفال: 22، 23].

وبتحقيق هذه العبودية يتولد عند المسلم:

  1. الخشية من الله سبحانه وتعالى.
  2. الالتزام الأخلاقي والأدبي قِبَل ما يعتقد ويرتبط.
  3. الشعور بالمسئولية الفردية ثم التضامنية.
  4. الحب في تأدية الواجب مهما كانت النتائج.
  5. تقدير الوقت والخوف من الفوت، لأنه محاسب عليه فلا يضيعه في جدل ومراء بل عمل وتضحية.
  6. الإيجابية في تنفيذ المطلوب بالمبادأة والمسارعة في تنفيذ المطلوب وتحقيق المنشود.
  7. زرع الطمأنينة في النفس والرجاء في القلب والثقة في الرب.
  8. تمنحه الجرأة والإقدام والشجاعة في نفسه، فيستبين معوقات طريقه فيواجه الشدائد، ويغلب على الصعاب، ويقارع الباطل، وينشر الحق ويفتديه، ويستيقن النصر وينتظره أو يحظى بالشهادة.
  9. أن يستعين بسلاح الصدق والإخلاص وسلاح التميز والالتزام، وسلاح الأخوة والثقة في الله.
  10. حرص على تحقيق عقد الإيمان، وعقد الأخوة مستعيناً بالثقة في الله ثم الثقة في إخوانه.

ولن يتحقق ذلك كله إلا بإخلاص العمل، وإسلام الوجه لله رب العالمين، فتتحقق الرابطة القوية التي جعلها المولى سبحانه وتعالى من الإيمان كما جعل فقدانها كفراً من الكفران (إنما المؤمنون أخوة) [الحجرات: 10] وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) [آل عمران: 100] قال العلماء: تقصد الآية الكريمة يردوكم بعد وحدتكم متفرقين، ولن يصبحوا متفرقين إلا إذا اختلفت القلوب وتفرقت وتعددت الغايات، ففي هذا الشأن نزلت، ولهذا الشان عرضت، وقد ألمح إلى هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل أصحابه رضوان الله عليهم، ألمح إلى السبب الذي نزلت من أجله الآيات الكريمة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض" لهذه المعاني أعلى القرآن الكريم وأرشد إلى قيمة الوحدة والأخوة في الدين، ولهذا كان ورد الرابطة يذكرنا بوحدة الوجهة والغاية، وأنت تدعو لإخوانك اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير، فالاجتماع هنا ليس اجتماع أجساد بل اجتماع قلوب على محبة الله وطاعته، ولن يكون ذلك كذلك إلا إذا كان الله غايتنا والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

إن التأكيد على أن الغاية الله من ثوابت دعوتنا، يقتضي حراستها، وإدراك أن كل مناقض لهذه الغاية مرفوض يقتضي اليقظة في مواجهة كل ناقض، والحفاظ على شعار الله غايتنا تعبيراً عن هدفنا الأسمى، يقتضي وضع الأهداف الأخرى في مكانها الصحيح في سلم العمل، ويعني ذلك أننا لا نملك أن نتخلى عن سلم الأهداف الذي يوصل إلى الغاية العليا، كما أننا لا نستطيع التنازل عن درجة من درجاته، فإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة –مثلاً- هي درجة من درجات سلم الأهداف لا نصل للغاية بدونها، ومن ثم لا يجوز التنازل عن التمسك بها، ولا يعني عدم قدرتنا على إقامة الخلافة الآن لسيطرة أعدائنا وهيمنة نظامهم العالمي على مقدراتنا، وتفوقهم علينا أن نحذفها من مراتب العمل، أو أن نطلب السلامة من بطش عدونا بإلغائها من أهدافنا، ففي هذا تعمية على الأجيال القادمة، وصرف لها عن واجب من واجباتها، وخفض لسلم أهدافها، يقف بها دون مرتبة قد تستحقها، أو يحرمها من تحقيق غاية فيها السعادة الأبدية (رضا الله عز وجل) فالله الغاية سحانه وتعالى.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات-  للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.