وائل قنديل

قال المذيع إن فريق النادي الأهلي يحمل الهوية المصرية لكنه ليس مصر، ومن ثم فإن تشجيعه ليس واجبًا قوميًا. على الفور، تم شلحه وتخوينه وتكفيره وطنيًا، وإيقافه عن العمل. ماذا لو قال المذيع ذاته أو أي مذيع آخر إن منتخب كرة القدم المصري ليس كل مصر، وإن حجم التفاعل والانفعال بالانتصارات في ملاعب الرياضة لا يجب أن يكون محدّدًا للولاء والانتماء؟.

عقب انتهاء منافسات بطولة الأمم الأفريقية وفوز الفريق السنغالي بالكأس على حساب الفريق المصري، أسرع وزير الرياضة المصرية ليواسي اللاعبين بالقول إنهم قدّموا أداء حظي باحترام القيادة السياسية. هذا تعبير سافر في دلالته عن احتقار النظام السياسي اللعبة واللاعبين، واختطافًا لها من الجمهور وتسخيرها لخدمة الحاكم.

ثم زاد الطين بلة بالخلط بين فوز الفرق الكروية وهزيمتها، وبين انتصارات الأمم وانكساراتها في حروب عسكرية، لينتقل بالإهانة من كرة القدم إلى إهانة معنى الوطن ذاته، وقبل ذلك إهانة معنى الحروب العسكرية، حماية للتراب الوطني ودفاعًا عن حرية الأمم. 

الواقع إنها اللوثة اللعينة التي تستغل الرياضة عمومًا، وكرة القدم، اللعبة الجميلة خصوصًا، بوصفها أنجح أشكال الاستثمار السياسي المفضلة لحكّام قلت عنهم سابقًا إنهم يربطون الوطنية بأقدام اللاعبين ويلعبون برؤوس الجماهير في المستطيل الأخضر، فإذا أفاق الجمهور من خدر الهتاف للكرة، وهتف للحرية والعدل والديمقراطية، قتلوه وأراقوا دمه على حشيش الملاعب، كما جرى مع مشجّعي النادي الأهلي في بورسعيد 2012، ثم مع مشجّعي نادي الزمالك في ستاد الدفاع الجوي 2015.

هناك جملة عبقرية منقولة عن المفكر السوري، الطيب تيزيني، الذي رحل قبل ثلاث سنوات، يقول فيها "سحبوا السياسة وكرّسوا كرة القدم"، والحاصل الآن يقول إنهم قتلوا السياسة وفرضوا كرة القدم واحدًا من أقانيم الانتماء الوطني المزيف.

شخصيًا، أحب كرة القدم، لعبًا وتشجيعًا وتحليلًا، فهي متعة حقيقية، ونشاط إنساني بديع تلمع من خلاله مهارات وقدرات مدهشة خلقها الله في البشر، ولا أخفي انحيازي لفرقٍ وأندية، محلية ودولية، لكنني لست ممن يجعلون كرة القدم جزءً من الهوية الوطنية ومعيارًا للانتماء والإخلاص للوطن.

في العام 2002، كان الصراع متأججًا في مرحلته الأخيرة بين الفريق المصري ومنافسه السنغالي للظفر ببطاقة التأهل إلى كأس العالم باليابان. وفي ذلك الوقت، كان على الفريق المصري أن يهزم المنتخب الجزائري على ملعبه، في عنابة، بعدد وافر من الأهداف، يتفوّق به على حصيلة السنغال من الأهداف في مباراتها على أرضها مع ناميبيا. في ذلك اليوم تعادل المصريون والجزائريون بهدف، وسحقت السنغال ناميبيا بخمسة، فانطلقت ألسنة الوطنية الكروية الفاسدة في القاهرة وأقلامها تلعن الجزائر والجزائريين والعرب والعروبة، فكتبت في ذلك الوقت أحذّر من الاستسلام لهذه اللوثة، تحت عنوان "عروبة مصر ليست معلقة بين قدمي ميدو". تكرّرت اللوثة ذاتها بعد سبع سنوات في تلك المواجهة المؤسفة بين الفريقين، المصري والجزائري، للتأهل إلى مونديال 2010 في جنوب أفريقيا، وهي الحالة الأبرز في مصادرة كرة القدم لمصلحة الاستبداد السياسي، حيث طغى حضور النظامين السياسيين في مصر والجزائر على حضور اللاعبين والجماهير في الملعب، فكتبت مرّة أخرى "عروبة مصر ليست بين قدمي أبو تريكة"، ثم طرحت مبادرة للتصدّي لذلك العبث القومي، فكتبت "وأتمنى أن يقدم مسئولو الرياضة فى البلدين الشقيقين من الآن على تبنّى مبادرة محترمة تتبنى إزالة مظاهر الاحتقان الجماهيرى، ووضع الأمور فى نصابها الصحيح، بعيدا عن محاولات امتطاء الرياضة سياسيا وتعبئة الجماهير وكأننا بصدد معركة حربية بين أعداء، وليس منافسة رياضية شريفة".

نعشق كرة القدم لأنها رياضة الشعوب، لا صناعة الحكام، بوصفها متعةً غير مكلفة للجماهير، لا أداة من أدوات الهيمنة على الوعي الجمعي .. نحبها لجمالياتها الفنية ولكونها توفر مساحة آمنة إلى حد بعيد لكي يمارس فيها الناس حق الاختيار الحر، وسط بيئة متصحرة ديمقراطيًا. نريدها متعة رياضية، لكن الطغاة يريدونها سلاحًا سياسيًا، وأداة أمنية لقمع أي تفكير في التغيير والثورة على ظلم وفساد واستبداد، فيصادرونها لحسابهم الخاص، ويعتمدونها وحدة قياس للوطنية.

أهتم بكرة القدم منذ نصف قرن تقريبًا، ولم أشاهد في حياتي صفوفًا من عساكر الجيش تحتل مدرّجات الملعب، بالزي العسكري الرسمي، إلا في البلاد المنكوبة بالحكّام المستبدين، مثلما كان يجري في بعض المباريات التي تجمع فرقًا مصرية بأخرى أفريقية.

كما لم أسمع عن فريق كرة قدم يحمل اسم "الجيش" أو"الشرطة" أو"الداخلية" أو الحرس الجمهوري إلا في بعض البلاد العربية، مصر وسورية والعراق، وكانت معهم قطر، التي كان عليها أن تتخلص من الأندية ذات الأسماء العسكرية والأمنية لكي تستوفي ملفها المونديالي. هل سمعت عن فريق يحمل اسم الجيش البريطاني، أو الشرطة الألمانية، أو حرس الحدود الفرنسي؟.

مرّة أخرى: في الدول المنكوبة بالطغاة، يعرق اللاعبون، وتشجّع الجماهير، حد الموت، وتحتسب النتائج لمصلحة السلطة الحاكمة.

المصدر: العربي الجديد