الزمن: ليلة مولد الرسول من عام 1940م.

والمكان: سلاح الإشارة فى المعادى وكنت إذ ذاك ضابطًا برتبة ملازم فى هذا السلاح.

ومولد الرسول في مصر، موسم من مواسمها، يعرف الأطفال فيه عرائس الحلوى، والأحصنة الصغيرة الملونة يركبها فرسان العرب، وتعرف فيه البيوت والدواوين والمجالس النيابية ودوائر السياسة وقصور الأغنياء، الحلوى الحمصية والسمسمية، ثم لا شىء بعد ذلك!

وعلى هذا الوجه مرت بمصر هذه الليلة، كما مرت بها دائمًا، ولكنها لم تمر بي كذلك، فقد كانت - من حيث لا أدرى - ليلة البدء لأحداث كثيرة متتابعة سمع المصريون أطرافًا منها، بعضها خافت كالهمس، وبعضها مدوٍّ كالقنابل والمتفجرات!

الرجل ذو العباءة!

كنا جلوسا في إحدى غرف السلاح، نتناول العشاء ونتكلم، وكان جنود هذا السلاح - وأغلبهم بطبيعة عملهم في سلاح الإشارة - فنّيين متطوعين قد اعتادوا منى كثيرًا أن أحاضرهم، واعتادوا منى دائمًا أن أتناول طعامى معهم، وأن أحدثهم بصراحة، وأن يحدثوني بمثلها.

ودخل علينا ونحن جلوس للعشاء في ليلة مولد النبى جندي من جنود السلاح الفنيين، لم يكن موجودًا بيننا منذ بدء هذه الجلسة، وقدم إلينا صديقًا له يلتحف بعباءة حمراء لا تكاد تظهر منه شيئًا كثيرًا.

لم أكن أعرف هذا الرجل إلى ذلك اليوم، ولم يثر دخوله ولا ملبسه اهتمامي، ولم يلفت نظري، وكل ما هناك أني صافحته ورحبت به ودعوته إلى تناول العشاء معنا، فجلس وتناول العشاء..

وفرغنا من الطعام، ولم أعرف عن الضيف شيئًا إلا بشاشة في وجهه، ورقة في حديثه، وتواضعًا في مظهره، ولكني عرفت بعد ذلك عنه شيئًا كثيرًا.

فقد بدأ الرجل بعد العشاء حديثًا طويلا عن ذكرى مولد الرسول، كان هو اللقاء الحقيقي الأول بيني وبين هذا الرجل وبيني وبين هذه الذكرى.

كان في سمات هذا الرجل كثير مما يتسم به رجال الدين: عباءته، ولحيته، وتناوله شئون الدين بالحديث.

ولكنه بعد ذلك كان يختلف عنهم في كل شىء، فليس حديثه هو وعظ المتدينين، ليس الكلام المرتب، ولا العبارات المنمقة، ولا الحشو الكثير، ولا الاستشهاد المطروق، ولا التزمت فى الفكرة، ولا ادعاء العمق، ولا ضحالة الهدف، ولا الإحالة إلى التواريخ والسير والأخبار.

كان حديثه شيئًا جديدًا، كان حديث رجل يدخل إلى موضوعه من زوايا بسيطة، ويتجه إلى هدفه من طريق واضح، ويصل إليه بسهولة أخاذة.

وكان هذا الرجل هو المرحوم الشيخ حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين.

الموعد الأول

وانتحى الرجل بي ناحية، وتجاذب معي حديثًا قصيرًا أنهاه بدعوتي إلى زيارته في دار جمعية الإخوان المسلمين قبل حديث الثلاثاء.

كانت الجمعية إذ ذاك لا تزال في دارها القديمة التى تشغلها الآن شعبة الجوالة التابعة لها. عينان من بعيد!

وذهبت يوم الثلاثاء، ولم أكد أضع قدمي في مدخل الدار، حتى شعرت بكثير من الرهبة، وكثير من الغموض..

دخلت من حجرة كبيرة جدًا من هذه الحجرات التى عرفت بها الأبنية المصرية القديمة، وقطعت هذه الحجرة بأكملها لأنفذ من باب صغير، ونفذت من هذا الباب لألقى أمامى شيئًا كالحجرة، أو شيئًا كالممر الطويل بين حجرات، ولم يكن هذا ممرًّا، وإنما كان مكتبًا، كان صفوفًا طويلة من الأرفف المتقاربة الملتصقة بالحوائط، وقد صفت عليها مئات كثيرة من الكتب ملأت جو المكان برائحة الورق المخزون.

وعلى بعد كبير في آخر هذا الممر، كانت هناك عينان فقط ترسلان بريقًا قويًا، هما كل ما يظهر من الرجل الجالس خلف مكتبه، مرشد الإخوان.

وتحدثت مع الرجل طويلا في ذلك اليوم، ولكنه لم يفتح لى كل نفسه، تحدث معي كثيرًا، ولكنه لم يخرج عن دائرة الدين أبدًا، وحصر نفسه فى هذه الدائرة، ولكنه جعل يتسع بمحيطها شيئًا فشيئًا حتى أصبحت أفقًا كبيرًا مليئًا بالمعاني، ورغم كل المحاولات التى بذلتها لأدفع به إلى حديث السياسة فقد فشلت. ورغم كل ما تطرق إليه الحديث من شئون الجيش، فقد ظل الرجل ملتزمًا ناحية الدين، وإهمال الناس له ورسالة الإيمان التى يجب أن يرتكز عليها جهادنا، ووجوب نشر هذه الرسالة فى صفوف الجيش.

سؤال خطير

وتكررت زياراتى بعد ذلك للرجل، وبدأنا نتحدث فى كثير من الشئون العامة، وبدأت أوقن أن الرجل يطوى صدره فعلا على مشاريع كبيرة وخطيرة، لا يريد أن يفصح عنها، كما أيقن الرجل أيضًا أنى لا أنتوى الانضمام إلى جمعيته، ولعله شعر أو أدرك أني أعمل شيئًا، وأنى لست أعمله وحدى.

ولم يرد الرجل أن يعرض عليّ الانضمام إلى جمعيته، كما أنه لم يحاول أن يسألني عن أية صلة بآخرين، ولكني فهمت أنه كان يدرك أشياء كثيرة من الحقيقة في مناسبة جاءت بعد ذلك بأيام.

وفي يوم تقابلت معه، وكنت ثائرًا مكتئبًا تملؤنى المرارة والألم، فقد صدرت الأوامر في ذلك اليوم بإعطاء الفريق عزيز المصري إجازة إجبارية من رياسة أركان حرب الجيش.

وكان معلومًا لنا أن وراء هذه الفعلة أيدى الإنجليز، وكان مجرد العلم بهذا كافيًا لإثارة نفوسنا، ودفعنا إلى أيّ عمل قد يراه الكثيرون - في مثل ظروفنا - من أعمال الجنون.

وجاءت الإجازة الإجبارية لعزيز المصري كناقوس كبير يدوى في آذاننا لكى نبدأ العمل.

واستحث هذا الحادث أمنيتنا الكبرى منذ وصلنا إلى القاهرة، أن نتصل بعزيز المصري، ونتعاون معه، وكان الخوف من إثارة الشبهات حول جماعتنا الصغيرة، أو حول أيّ فرد منها لا يزال مسيطرًا علينا.

ويبدو أني قلت ذلك للمرحوم حسن البنا أثناء حديثى معه في ذلك اليوم الخطير، وابتسم الرجل وسألنى في بساطة:

- هل تحب أن تلقى عزيز المصري؟

وفوجئت بالسؤال فما تمالكت نفسي من القول:

- إنها أمنية!

وعاد يسألني والابتسامة على شفتيه:

- وما يمنعك من تحقيقها؟

وأخذت ألقي إليه بمعلوماتى عن مراقبة المخابرات البريطانية للفريق عزيز المصري، ومحاصرتها له، ولكل من يحاول الاتصال به، وأوشكت أن أفضي إليه بأني أخشى أن أحاول ذلك فلا تكون نتيجته أن ينكشف أمري أنا وحدي.

ولكن الرجل الذى كان يستمع ويبتسم، وكان قد أمسك ورقة صغيرة وأخذ يخط عليها بضع كلمات، ثم مد بها يده إلى، وقال لى:

- ستلقاه في هذا المكان غدًا فى المساء.

وأخذت الوريقة أقرؤها بشغف شديد، بينما قال لى حسن البنا والابتسامة على شفتيه:

- واقطع تذكرة عند الدخول كما يفعل الداخلون!

وخرجت من دار الإخوان المسلمين أخطو خطواتي الأولى إلى مستقبل مجهول.

*مقال الصدفة التى جمعتنى بالمرحوم حسن البنا

المصدر : الجمهورية – 12ربيع الآخر 1373هـ / 19 ديسمبر 1953 م.

    محمد أنور السادات ولد بقرية "ميت الكوم" بمحافظة المنوفية بمصر 1918 م، اعتقلته القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية بتهمة التعاون مع الألمان، ارتبط اسمه بعملية اغتيال أمين عثمان 1946 م بعد اتهامه بالتعامل مع الإنجليز، كان عضوًا بمجلس قيادة ثورة يوليو 1952م، تولى منصب نائب رئيس الجمهورية فى الفترة من 1964 : 1966 م، وتولاه مرة ثانية عام 1969 م، وتولى رئاسة الجمهورية بعد وفاة جمال عبد الناصر فى عام 1970 م تم اغتياله عام 1981 م.