تصحيح المسار لدى البعض:
بعد أن أوضحنا المنهاج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة الإسلامية الأولى والمتمثل في إيجاد القاعدة الإسلامية المتينة التى يقوم عليها البناء، وأنه ركز صلى الله عليه وسلم على أسس ثلاثة هي: قوة العقيدة والإيمان، ثم قوة الوحدة والأخوة، ثم قوة الساعد و السلاح، بهذا الترتيب، وأوضحنا أنه صلى الله عليه وسلم ربى المسلمين الأول على هذه القوى الثلاث، فتخرج في مدرسته رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه، وقامت على أكتافهم الدولة الإسلامية الأولى، وتطهرت بهم جزيرة العرب من الشرك والأصنام، وفتحت الفرس، وأجلى اليهود، وتبدد الظلام، وعم النور .
نعود بعد ذلك إلى مناقشة بعض أساليب ومناهج العمل التى اختارتها بعض الجماعات ترجيحاً منها أنها الأسلوب الأمثل .
فمثلاً الذين يُغلّبون العمل فى المجال السياسى على العمل فى المجال التربوى، ويهتمون بالعدد والكم أكثر من اهتمامهم بالمستوى و النوعية، ويعجبهم اتساع القاعدة أكثر من صلابتها ومتانتها، نقول إن مثل هذا الأسلوب ربما يحقق مكسباً ظاهرياً، وقد يوصل إلى الحكم في وقت أقل، ولكن لهذا الأسلوب مخاطره؛ فالقاعدة تكون هشة غير متينة، والنوعيات التى ستقوم على التنفيذ و التمكين تكو غير أصيلة لأنها لم تحظ بقسط التربية والإعداد الواجب، وهكذا يتعرض البناء إلى الانهيار وعدم الصمود أمام الضغوط التى يتعرض لها من أعداء الإسلام وعملائهم، كما أن القائمين على التطبيق قد يسيئون التطبيق نتيجة ترخصهم أو تغيرهم، وهم على كراسيّ الحكم بسبب عدم إعدادهم وتربيتهم؛ فأمانات الحكم ثقيلة، ولا يقوى عليها إلا من تجرد ومحِّص وأعدَّ إعداداً قوياً بحيث لا يفتنه كرسي الحكم فيطغى أو ينحرف عن الإلتزام بالإسلام الصحيح ويسىء التطبيق، وبحيث لا يضعف أمام قوى الباطل ولا يتنازل في أي موقف عما يمليه عليه الإسلام .
خير للبناء أن يقوم متينا من أول لبنة في البناء ولو أخذ وقتاً أكثر من أن يعلو هشاً في وقت قصير، ثم ينهار بعد ذلك، ولا يصمد، ونبدأ من جديد .
ومن سلبيات هذا المنهج الذى يُغلب المجال السياسى على المجال التربوي ما يظهر في القاعدة الشعبية أيضاً فإنها لن تحظى في ظل هذا المنهج بالإعداد اللازم لتهيئتها لتقبل شرع الله كنظام للحكم مما يشكل عقبة عند التطبيق، ومثل هذه القاعدة الهشة يمكن أن تتأثر بدعاية أي حزب من الأحزاب صاحبة المبادىء الأرضية واجتذابها له بالمال أو غير ذلك من الأساليب؛ فلا يكسبها التيار الإسلامي إلى جانبه فى انتخابات قادمة خاصة إذا ظهرت سلبيات عند تطبيق الإسلاميين في الحكم نتيجة النقص في التربية .
إن مقياس قوة أي تجمع لا يكون بعدد من يعطونه أصواتهم في انتخابات عامة، ولكن بعدد من هم مستعدون للتضحية والصمود معه في مواقف الشدة ومواجهة الأعداء، مثل هذه النوعية تساند الحركة وتحميها من الانحراف .
ولايعنى ذلك أن الذين يغلبون جانب التربية أنهم يهملون المجال السياسى ويتركونه فسيحاً لأصحاب المبادىء الأخرى ولكن يقتحمونه بخطوات محسوبة وفي توازن حكيم بحيث لا ينال من التربية التى هي الأصل الذي يقوم عليه البناء .
كما لا يتصور أحد أن الذين يغلبون التربية أنهم سيحولون جماهير الشعب إلى هذه النوعية الجيدة القوية؛ فهذا أمر مستحيل أو يطول به الأمد دون اكتمال، ولكن لابد من إعداد ركائز البناء التى يقوم عليها من هذه النوعية بمثابة القاعدة الخرسانية والأعمدة الخرسانية كأساس متين يعلو فوقه البناء مستقراً، وتكون جماهير الشعب بمثابة اللبنات التى تملأ الفراغ بين تلك الأعمدة الصلبة .
ننتقل بعد ذلك إلى مناقشة أصحاب أسلوب استعمال القوة في التغيير دون الاهتمام بالتربية أو إعداد القاعدة الصلبة التى يقوم عليها البناء ويصمد ويستقر، فنقول إن طبيعة الأمور تقول إن البناء لايبدأ من أعلى كأن يتم التغيير بالقوة على طريقة الانقلابات العسكرية دون تكوّن القاعدة التى يقوم عليها البناء ، إذ لابد من بدأ البناء من أسفل أي من القاعدة، ثم يعلو تدريجياً، لابد من القاعدة المكونة من الفرد والأسرة و المجتمع بحيث يؤمنون جميعاً بأحقية شريعة الله في الحكم، ويصرون عليها، ويصمدون مع المطالبين بها، ويرفضون غيرها من الشرائع .
ثم إن التغيير الذى يتم بطريق الانقلابات العسكرية دون تكون القاعدة يمكن أن يتعرض لانقلاب مضاد من قوى أخرى، وتهتف الجماهير فى القاعدة الشعبية للانقلاب الجديد لأنها لم تعدّ إعداد اً كافياً من قبل .
وكما أوضحنا سابقاً أن اللجوء الى استعمال قوة الساعد والسلاح قبل تحقيق قوة العقيدة والإيمان وقوة الوحدة والأخوة يمكن أن يؤدي إلى تطاحن من يحملون السلاح بين بعضهم البعض لأي خلاف يحدث بينهم؛ لعدم توفر الوحدة القوية والإيمان القوى، وقد لمسنا على الساحة صوراً من ذلك، فتوفر الإيمان يحجز قوة السلاح من أن تستعمل فيما لا يقره الشرع من استباحة الدماء و الحرمات، وقوة الوحدة تحمى من أن يستعمل السلاح بين أفراد التجمع بعضهم البعض .
نحن الذين خبرنا طريق الدعوة لا ننكر حماس الشباب واستعداده للجهاد، والبذل، والتضحية فى سبيل الله، وحب الاستشهاد، ولسنا ممن يريدون كبت هذا الحماس أو إماتته فى نفوس الشباب، ولكننا نريد حماساً مبصراً منضبطاً يمكن التحكم فيه، ولا نريده حماساً أهوج مندفعاً يورط في أعمال متهورة غير مسئولة تضر ولا تنفع .
نحن لا نتهم نيات أحد من الذين يعملون في حقل الدعوة الإسلامية مهما اختلفوا معنا في أسلوب العمل ورغم إساءتهم لنا أحياناً، ولكننا نوصي بالنظرة العميقة الممتدة زمنياً، ونحذر من النظرة السطحية الوقتية أو اللحظية؛ فالقضية ضخمة، ولها أبعاد كثيرة، وآثار ممتدة بعيدة، ولا يصلح معها الاندفاع والارتجال، أو ردود الأفعال، كما لا يصلح معها أيضاً الضعف والاستكانة أو البطء والتراخي .
إننا نضن بأرواح الشباب وطاقاتهم أن تهدر في غير الطريق الصحيح المؤثر والذي يحقق التقدم و البناء السليم .
كثيراً ما يخطىء بعض الشباب، ويظن أن من سبقوهم على طريق الدعوة وتقدم بهم العمر قد أصابهم الضعف وأبعدوا الجهاد من وسائلهم بسبب مالاقوه من محن شديدة وضعف صحتهم لتقدم السن إلى غير ذلك من تصورات خاطئة، لا أصل لها، ولا أكون مغالياً إذا قلت إنى ألمس الكثيرين من جيلنا يتدفقون حماساً وحباً للشهادة بما لا يتوفر في بعض الشباب، ولكن حماسنا هذا تضبطه الحكمة و التجربة التى اكتسبناها على طريق الدعوة واستفدناه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلوب تحركه بالدعوة، إذ سن رجل الدعوة لايقاس بعدد السنين ولكن بروحه وقلبه، فإذا شاب شعر رأسه ولحيته فلا يشيب قلبه، ويعبر عن ذلك في بيتين من الشعر الصافى النجفى رحمه الله :
سني بروحي لابِعَدِّ سنينى
فلأسخرن غداً من التسعين
عمرى إلى السبعين يركض مسرعاً
و الروح ثابتة على العشرين
ولعلى أتمثل هذين البيتين فيما عدا الفقرة الثانية من البيت الأول
نحن ندعو إلى امتزاج حكمة الشيوخ بحماس الشباب لتجتمع الحكمة مع القوة فى اعتدال وتوازن واستمرارية، نحن لا نؤمن بالطفرة أو الفورات القصيرة الأمد ثم تنطفىء بعد قليل، لقد علمتنا التجارب أن الحماس الشديد ليس في غالب الأحيان دليلاً على قوة إيمان صاحبه ولكن كثيراً ما يدل على أن نفسه قصير، ويظن أنه بحماسه سيختصر الطريق ثم يرتاح، وهذا يتنافى مع طبيعة المَهمة التى نتصدى لها و التى تحتاج إلى وقت طويل، ونفس طويل، وصبر ومصابرة، واحتمال وثبات، مع الاستمرار في تقديم البذل و التضحية .
قد يقول أصحاب الرأي بالتغيير بالقوة إننا نرى انقلابات عسكرية تتم على الساحة، ويستقر أصحابها في الحكم سنوات يمكنون من خلالها لمبادئهم في شعوبهم فلم لا نكون مثلهم؟ فأقول لو أمعنتم النظر لوجدتم أن معظم هذه الانقلابات ـ إن لم تكن جميعهاـ من تدبير ومساندة قوى خارجية من شرق أو غرب لتؤدى دوراً لتلك القوى ، ونحن نؤمن أن القوة التى يستند إليها العاملون في حقل الدعوة هى قوة الله موهب القوى ولكن الله يأمرنا أن نأخذ بالأسباب الصحيحة وذلك بعد أن نعد أولاً: القاعدة الإسلامية القوية التي يقوم عليها البناء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل .
إن الذين يعملون في أي مجال من المجالات كالطب، أو الزراعة، أو الصناعة لايبدأ كل منهم من الصفر، ولكنهم يستفيدون من خبرة وتجارب من قبلهم، ويبنون عليها، ولا يبخسون من سبقوهم جهودهم وخبراتهم، فمن باب أولى في مجال العمل في حقل الدعوة الإسلامية تكون الاستفادة من الخبرات و التجارب السابقة أوجب، ونضيف إلى ذلك مايدعو إليه الإسلام من اجتماع الكلمة وتوحيد الجهود وعدم التفرق و التشرذم امتثالاً لقوله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } وقوله تعالى { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاأب عظيم } .
منقول بتصرف من كتاب – وحدة العمل الإسلامي في القطر الواحد – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله .