أشرف دوابه

يأتي الغزو الروسي لأوكرانيا في ظل ما يعيشه العالم من تبعات كورونا، ليزيد من الأمر سوءا، ومن ويلات الحرب تأثيرا على البشر والحجر، وفي ظل هذه الحرب تكشّفت العديد من الدروس الاقتصادية لا سيما للدول العربية والإسلامية التي لا تملك من أمرها شيئا، وأبت إلا أن تعيش يومها، وغاب التخطيط الحقيقي وفقا لأولويات شعوبها عن أجنداتها.

لقد جاءت هذه الحرب لتكشف مدى النفاق الغربي، سواء فيما يتعلق بالدعم لأوكرانيا في أيام معدودات، بينما الفلسطينيون منذ عقود أرضهم محتلة ولا يجدون من الغرب إلا عونا للمحتل ووصفا لمقاومتهم بالإرهاب، فضلا عن العنصرية البغيضة في فتح باب اللجوء للأوكرانيين باعتبارهم أصحاب بشرة بيضاء وعيون زرقاء، في حين ما زالت تغلق الأبواب أمام غيرهم من اللاجئين لا سيما العرب، وإن كنا لا ننكر وجود هذه العنصرية تجاه اللاجئين العرب من العديد من الدول العربية.

إننا نقف بكل قوة مع كل مظلوم ضد كل ظالم بغض النظر عن دينه أو جنسه، وما فعلته روسيا لغزو أوكرانيا هو عمل مدان بالطبع، ولكن كم من دول عربية وإسلامية حالتها كحالة أوكرانيا وقد تكون معرضة للالتهام ممن حولها؟!

إن في الغزو الروسي لأوكرانيا دروسا وعبرا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد، ولعل من الدروس الاقتصادية التي كشفت عنها هذه الحرب حالة العراء الاقتصادي التي يعيشها العرب والمسلمون في عجزهم عن تلبية قوتهم اليومي الذي جعلوه بيد غيرهم. فالقمح الذي هو أولى السلع الاستراتيجية أصبح فريضة غائبة عن ديارهم، واعتمدوا على الاستيراد من روسيا وأوكرانيا -التين تمثلان معاً أكثر من ربع إمدادات العالم من القمح- لتلبية احتياجاتهم، حتى دخلت ست دول إسلامية في العشر الكبار المستوردة للقمح عالميا تتقدمها مصر، ثم على التوالي تركيا فإندونيسيا فالجزائر فبنجلاديش فإيران.

إن بلد النيل التي سماها الله "خزائن الأرض" وتاريخها المجيد منذ خلق البشرية؛ يعكس أن القمح كان عندها سلعة استراتيجية تمثل الحياة ليس لشعبها فقط، بل للشعوب الأخرى من حولها، وهو ما كشفته الخطة الاستراتيجية الخمس عشرية التي خطها نبي الله يوسف عليه السلام بيده: "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ" (يوسف: 47-49).. فكيف الحال بمصر الآن وقد سارت على نهج الكتالوج الأمريكي بتعزيز صادرات الفراولة وغيرها من الفواكه والاعتماد على استيراد القمح؟!

هذا الكتالوج الذي منع السعودية من زراعة القمح بعد نجاحها في ذلك.. هذا الكتالوج الذي طبقته النظم العربية وغضت الطرف عن نموذج نبي الله يوسف -عليه السلام- لتحقيق الاستقلالية الغذائية ومن ثم الاستقلالية السياسية، وهذا ما حرص عليه الرئيس مرسي رحمه الله، فقد حضر بنفسه يوم حصاد محصول القمح بقرى بنجر السكر في برج العرب بمحافظة الإسكندرية، معلنا تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح خلال أربع سنوات، ورغم السنة اليتيمة التي حكمها بمؤامراتها إلا أنه نجح في زيادة إنتاج القمح بنسبة 30 في المائة عن العام السابق ليصل إلى 9.5 مليون طن. ولكن ما إن تم الانقلاب عليه حتى بات المثل الشعبي حاضرا "عادت ريما لعادتها القديمة"، وأصبح إنتاج القمح في مصر يتراوح ما بين 8 و9 مليون طن سنويا، في حين تبلع الاحتياجات 18 مليون طن سنويا، لتكون مصر أكبر مستورد للقمح عالميا.. وهكذا حال كل نظام جاء جبرا لا اختيارا للشعب فيه.

وقد يظن البعض أن الارتفاع المتصاعد في أسعار النفط والغاز يصب في صالح الدول النفطية العربية بصورة مطلقة، لا سيما في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا التي تعد أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط.

وهذا التصور لا يمكن التسليم به في حال الدول العربية النفطية التي تعتمد على غذائها وملبسها ودوائها وجل احتياجاتها على الاستيراد من الغرب، ومن ثم فإن هذا الارتفاع في سعر النفط يعود للدول العربية النفطية في صورة تضخم مستورد نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة بارتفاع النفط، وهو ما يعني مزيدا من حدة التضخم الذي يغذيه ليس ارتفاع أسعار السلع الأساسية وفي مقدمتها القمح الذي زاد سعره بأكثر من الضعف، فحسب، بل ارتفاع أسعار السلع الكمالية كذلك، إضافة إلى ما يمثله ارتفاع سعر النفط والغاز من عبء إضافي على ارتفاع الأسعار في الدول الإسلامية المستوردة للنفط والغاز.

إن هذه الحرب الذي تدور رحاها -وهي ليست بعيدة عن ديارنا- رسالة للعرب والمسلمين، بأن من تغطى بالأمريكان والغرب فهو عريان، وأن من يريد أن يتغطى بغطاء حقيقي فليعتمد على نفسه في تلبية حاجاته لا سيما الحاجات الأساسية، كما فعل نبي الله يوسف عليه السلام، وأن يستخدم ثروته لصالح شعبه لا لتحقيق الرضا للنفاق الغربي بشراء الأسلحة التي توجه لصدور الشعوب الإسلامية، فضلا عن شراء أذون وسندات الخزانة الأمريكية وفقا لسياسة البترو دولار، إضافة إلى أهمية السعي بكل جدية لتحقيق الوحدة الإسلامية حتى لا تكون الدول الإسلامية لقمة سائغة لمن حولها.

ولتكن هذه الوحدة في ظل مظلة سياسية جامعة ومظلة اقتصادية محفزة للتكامل الاقتصادي وخلق نظام نقدي يحيد الدولار، ونظام لنقل التعليمات المالية لا يكون أسيرا للسويفت، السلاح المالي البتار، وفتح الباب لانتقال العمالة، والاستفادة من الخبرات المتبادلة لصنع سلاحنا ودوائنا وغذائنا وكسائنا بأيدينا، وأن نضع تحت الأقدام العنصرية البغيضة التي تحولت إلى شعارات باسم المواطنة والجنسية، فجنسية الدين وكفاءة وأمانة العنصر البشري الإنتاجي أولى منزلة وأنفع إنتاجا.

 

twitter.com/drdawaba