د. أشرف دوابة

 لا يعني تخلف دولة عن سداد ديونها أن ذلك خلاص لها، بل إن ذلك يضر بسمعة الدولة بين الدائنين، ما يخفض تصنيفها الائتماني، ويحد من قدرتها على الحصول على الائتمان والنفاذ لأسواق المال الدولية، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية. بل قد تتدخل الدول الدائنة ذات القوة عالميا بفرض أجندتها على الدولة المدينة، فضلا عن حصارها اقتصاديا، وقد تتطور الأمور إلى إعلان الحرب عليها.

ولا يتوقف الأمر عند هذه الآثار المرتبطة بالدائنين، بل ينعكس ذلك أيضا على مستوى مواطني الدولة المدينة. فالعملة المحلية تكون قابلة للانهيار، ومن ثم انخفاض قيمة الثروات النقدية للمواطنين، فضلا عن انتقال العدوى لأزمة مصرفية، من خلال شطب الديون الداخلية، وشهود البلاد تدافعا لسحب الأموال من البنوك نتيجة تلاشي الثقة في النظام المصرفي والمالي، ولذلك تقوم الحكومات بوضع قيود على سحوبات المودعين بالبنوك من حساباتهم، بل تظهر أزمة اقتصادية من خلال سيادة الركود التضخمي، وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الخدمات المقدمة من الدولة.

وبالنظر إلى الواقع المصري نجد أن مقدمات التوقف عن السداد، أو بمعنى آخر الإفلاس، لمحت له بعض الصحف ووسائل الإعلام المحسوبة على النظام، وهو في حقيقته كامن في الاقتصاد المصري، حيث تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن مصر جاءت في مقدمة أكبر 10 دول عربية في عام 2022م، من حيث قيمة الدين العام للحكومات بقيمة 409.5 مليار دولار، والحكومة ما زالت تتجه إلى المزيد من القروض من صندوق النقد الدولي وغيره مما سيزيد من تبعات الأزمة.

وقد ذكرت وكالة التصنيف الائتماني الدولية ستاندرد آند بورز أنه من المتوقع أن تصبح مصر أكبر مُصدر للديون السيادية بين الأسواق الناشئة، بإصدارات تصل إلى 73 مليار دولار خلال السنة المالية الحالية بتجاوز ما اقترضته العام الماضي بنحو 10 مليارات دولار، من خلال إصدار السندات السيادية.

إن الدين العام المصري -للأسف الشديد- يأكل الناتج المحلي أكلا، فقد بلغت نسبته 94 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد خصصت الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2022/2023م 690 مليار جنيه من الإيرادات العامة لسداد بند واحد هو الفوائد المستحقة على الدين العام، كما خصصت 965.5 مليار جنيه لسداد بند آخر هو القروض المحلية والأجنبية، وهو ما يعني أن البند المتعلق بسداد الديون وفوائدها يتجاوز تريليونا و655 مليار جنيه، وهو ما يتجاوز إيرادات الدولة عن نفس العام والبالغة تريليوناً و517 مليار جنيه.

ومصر في ظل ورطة الديون امتد تأثيرها الواضح إلى الاحتياطي من النقد الأجنبي الذي أعلن البنك المركزي المصري عن تراجع في رصيده بأكثر من ثلاثة مليارات دولار، ليسجل نحو 37.082 مليار دولار في نهاية مارس الماضي، ثم بزيادة قدرها 41 مليون دولار بنهاية أبريل الماضي ليصل إلى 37.123 مليار دولار، وإن كان في جله قروضا من الغير. كما أن البنوك تعاني من أزمة سيولة ، فقد كشف البنك المركزي المصري عن استمرار أزمة البلاد مع العملات الأجنبية، معلنا عن انخفاض حاد في صافي الأصول الأجنبية في نهاية مارس الماضي، وللشهر السادس على التوالي، حيث تراجع صافي الأصول الأجنبية إلى 169.7 مليار جنيه (9.2 مليارات دولار)، لتهبط إلى سالب 221.3 مليار جنيه، مقارنة بمبلغ 51.69 مليار جنيه في الشهر السابق.

ورغم خفض الجنيه المصري بنحو 18 في المائة، ورفع سعر الفائدة، ووضع قيود على الاستيراد تهدد بوقف الإنتاج، فإن الأزمة ما زالت تستفحل، ولن يحقق قرض الصندوق الجديد سوى ترقيع للأزمة، ومزيد من السياسة التقشفية وتخفيض للجنيه المصري، وزيادة الضرائب والرسوم وأسعار الخدمات العامة، والمزيد من تقليص الدعم وتدني الخدمات العامة المقدمة للمواطنين من صحة وتعليم وغيرها، وهو ما يضرب الحماية الاجتماعية في مقتل ويزيد من فاتورة الفقر، ويحول بين الحكومة وبين تحقيق أي مشروعات تنموية علي المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

إن النظام المصري -للأسف الشديد- ورط مصر باستبداده وغياب الدراسات العلمية عن منهجه في مشروعات تجميلية بما يمكن تسميته الحَوَل التنموي.. هذا الحول الذي جاء بديون من أجل إنشاء عاصمة جديدة ليتغنى بها ولا قيمة مضافة من ورائها، ومن قبلها تفريعة قناة السويس التي ثبت فشلها وحمّلت مصر ديونا داخلية وخارجية كانت في غنى عنها، وهي السبب الرئيس في انهيار الجنيه المصري، فضلا عن عسكرة الاقتصاد واتجاه السلطة نحو البذخ وبناء القصور والسجون، بدلا من بناء المصانع والسدود التي تسهم في الإنتاج وتشغل عمالة وتحقق قيمة مضافة، حتى أنه في ظل تلك هذه الأزمة الكبيرة والمخيفة يجتمع رئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي بالمهندس المعماري الأمريكي العالمي "أدريان سميث"، المصمم والشريك في شركة "أدريان سميث آند جوردون جيل للهندسة المعمارية"، للقيام بتنفيذ برج عملاق في العاصمة الإدارية الجديدة من تصميمه.

إن توريط مصر في الديون لأجيال قادمة مصيبة كبرى وترقيعها مصيبة أكبر والتوقف عن السداد وانفجار فقاعة الديون مسألة وقت، وما توريط الخديوي إسماعيل لمصر في ديون ضاع معه ملكه عنا ببعيد، أما الذين يتغنون بتنوع الاقتصاد فهم يقولون غير الحقيقة، فهو اقتصاد في حقيقته ريعي ويحتاج إلى تغير هيكلي في قطاعات النشاط الاقتصادي من جذوره، وهذا مستحيل في ظل عسكرة الاقتصاد.

كما أن من يرددون أن قرض الصندوق هو مسعف وشهادة جدارة للاقتصاد المصري هم من أهل الغش ولا يحترمون أدنى مستويات العلم، فإلى متى سيستمر الإسعاف سواء من الصندوق أو دول الخليج؟ وماذا أغنت شهادة الجدارة من قروض الصندوق السابقة سوى المزيد من الأزمات وليس الحلول؟ فتجارب الصندوق نهايتها الخراب، فهو يحارب الفقراء وليس الفقر، ولا يمكن أن يحقق عمرانا، وما قرضه إلا تأجيل لفقاعة الإفلاس.

twitter.com/drdawaba