* التربية العملية في الإسلام 

والإسلام لم يكتف بصياغة النظريات في تكوين الأفراد، وإنما سلك بهؤلاء السبيل التطبيقي العملي والمناهج التربوية التجريبية، ومن يراقب عن كثب نماذج التكوين التطبيقي في عهد النبوة سيقف على كثير من اللفتات والطرائق العملية في التكوين والتربية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف من المسلمين بما أصابوه في دار الأرقم من فقه وتوجيه، وإنما خرج إلى المجتمع الجاهلي يتحدى بهم أفكار الناس ومعتقداتهم، ويخوض مع الجاهلية حرباً سافرة هدفها الأول والأخير إعلان العبودية لله في الأرض، والخضوع لسلطانه، والانقياد لأمره، ولقد هانت الدنيا في أعين أولئك؛ فكانت بكل ما فيها من مغريات ومفاتن لا ترقى إلى مواطئ أقدامهم؛ حتى وصفهم أعداؤهم بأنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم .

كان مصعب بن عمير وحيد أمه، صاحبة الثراء والجاه، وكانت كل فتاة في مكة تتمناه زوجاً لها، ورفيقاً لعمرها، وعندما أسلم هددته أمه بحرمانه من ثروتها؛ فلم يبال، ثم أقسمت أن لا تذوق طعاماً قط حتى يترك الإسلام؛ فلم يزد أن قال بكل إبمان وتصميم: ( والله يا أماه لو كانت لك مائة نفس خرجت نفساً نفسًا ما تركت دين محمد ) ولقد حدث الذين كانوا يعرفونه في جاهليته أنهم شاهدوه بعد الإسلام يسير في طريق مكة، وليس عليه إلا أثمال بالية، لا تكاد تستر جسده، وكانت الهجرة حلقة أخرى من حلَقات التكوين العملي في المسلمين دعوا فيها إلى التخلي عن كل ما يملكون، وترك البلد الذي فيه يعيشون، وفي هذه ما فيه من تعطل الأعمال، وبوار التجارة، ومفارقة الأهل والعشيرة، ولقد استجاب المؤمنون لنداء الهجرة، وأهدروا في سبيل الإسلام كل مصالحهم وضحوا بأعز ما لديهم .

ويُروى أن صهيباً الرومي حين خرج مهاجراً تصدى له كفار قريش في الطريق، وقالوا له: لقد أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله ما يكون ذلك فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم؛ فقال: فإني جعلت لكم مالي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ربح صهيب  ربح صهيب ).

هكذا تجسدت مبادئ الإسلام في حياة الدعاة، كان سلوكهم اليومي وتصرفهم الخاص والعام واقعاً حركياً للنظرية الإسلامية، وهذا ما مكنهم من مجاوزة جميع المنعطفات ومواجهة كل العقبات بنجاح .

والحركة الإسلامية في هذا الزمن بأمس الحاجة إلى أن تجتاز بدعاتها مناهج عملية تطبيقية من شأنها أن تستخلص من  شأنها الحاجة إلى أن تستخلص من نفوسهم عوامل الضعف والوهن، وتعدهم لمواجهة مختلف الاحتمالات والفرص ...{والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }.

 

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية” للأستاذ فتحي يكن - رحمه الله.