وائل قنديل

في ظروف طبيعية، يكون الإعلان عن تمثيل بطلٍ في لعبة فردية لدولة، يحمل جنسيتها مع جنسية دولة أخرى، خبرًا عاديًا في نطاق اللعبة الرياضية عمومًا، من دون أن مناسبة لإعلان حرب الهويات والانتماءات الوطنية.

أما مع الأنظمة التي تفرض على شعوبها نوعياتٍ من الوطنية الزائفة، أو الفاسدة، أو بالأحرى المستعملة لتمرير القمع والاستبداد، فإن مثل هذا الخبر الرياضي يتحوّل إلى حربٍ سياسيةٍ تتطاير فيها مقذوفات التخوين والتكفير والاتهام بالعمالة وبيع الوطن .. إلى آخر هذه القائمة المعتبرة من أشهى أصناف العلف السياسي والإعلامي.

في قصة اختيار لاعب الأسكواش، المصري البريطاني، محمد الشوربجي، تمثيل منتخب انجلترا في اللعبة، أنت بصدد بطلٍ في لعبة فردية، لها تصنيف عالمي يتنافس على ريادته لاعبون قد يتصادف أنهم من أبناء جنسية واحدة، أو من جنسياتٍ مختلفة، كما في لعبة التنس، حيث انحياز الجمهور للاعب، وأدائه، من دون أن يكون ذلك معيارًا لوطنية اللاعب أو الجمهور، ومن دون أن تقفز على منجزات اللاعبين أنظمة حكم مستبدّة، تستعمل انتصاراتهم في الترويج السياسي، أو تسويغ الظلم الاجتماعي الواقع على الشعوب.

حالة اللاعب محمد الشوربجي تكرّرت كثيرًا على مرّ التاريخ، مع نجوم رياضات فردية وجماعية، لكنها لم تتحوّل إلى موضوع يمسّ بالأمن القومي أو بمقتضيات الوطنية والانتماء، ولم يصبح أبطالها بين يوم وليلة منبوذين من جنة الوطنية إلى جحيم الخيانة والعمالة، إلا في الحالة المصرية، فتكون فرصةً ذهبيةً لتجار الوطنية الفاسدة الذين هم أنفسهم تجّار اللحوم الفاسدة، والإعلام الفاسد، والسياسة الفاسدة، ممن لا يتركون وسيلةً إلا ويستخدمونها لتكفير شرائح من الشعب بالانتماء إلى وطنٍ مختطفٍ على يد مجموعةٍ من حثالات الفاشية والإقصاء، الذين يتصوّر كل واحد منهم أن بيده مفاتيح الوطن وأختام الوطنية.

الثابت أنه لا يوجد في الدساتير المصرية المتعاقبة، أو في المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، ما يجعل حمل الشخص جنسيتي دولتين أمرًا مجرّمًا، أو مسوغًا لتجريده من الانتماء لواحدةٍ منهما، أو اعتباره خائنًا أو عميلًا، سواء كان بطلًا رياضيًا أو عالمًا متفوقًا في الطب أو الفيزياء، الكيمياء، مثل حالة أحمد زويل، مثلًا، الذي حصل على نوبل في الكيمياء مرشحًا من مؤسسة علمية أمريكية، وباعتباره مواطنًا أمريكيًا، قبل أن يكون مصريًا.

وبعيدًا عن المناخ الفاسد، القاتم، الذي يدفع الكفاءات والمواهب المصرية، في عديد المجالات، الطبّ أبرزها، إلى البحث عن مهربٍ من بيئة قاتلة للإبداع وللإنسانية، بل وللوطنية على وجهها الحقيقي، فإن ثمة أسئلة تفرض نفسها عن معنى الوطن والوطنية، ومفهوم الخيانة والتخلّي، وما نحو ذلك من شعاراتٍ يرفعها أكثر من أهانوا كل هذه المعاني والمفاهيم.

مثلًا: أيهما أكثر إيذاءً للوطن: أن ينتقل بطل اسكواش من تمثيل بلده إلى اللعب باسم بلد آخر يحمل جنسيته، أم نقل مساحة من تراب الوطن إلى دولةٍ أخرى عن طريق البيع، أو التخلّي، كما في حالة جزيرتي تيران وصنافير؟

على مقياس التفريط والخيانة، أيهما أخطر: قرار اللاعب محمد الشوربجي الذي يكفله الدستور والقانون والمواثيق الدولية، أم قرار الجنرال عبد الفتاح السيسي بالتفريط في جزيرتين استراتيجيتين منفردًا، ضاربًا أحكام قضاء مجلس الدولة عرض الحائط، ومنكّلًا بكل الذين رفضوا بيع الجزيرتين؟

لعبة الاختباء من السقوط الحضاري في ملاعب الرياضة قديمة جدًا، تجيدها السلطات المستبدّة التي تعبث بالأوطان وتسحق الشعوب، سياسيًا واقتصاديًا، ثم تقيم مهرجاناتٍ صاخبةٍ لوطنية كرة القدم، والآن الأسكواش، كما كان يفعل حسني مبارك والعائلة مع منتخب الكرة، يمصّون دم الشعب ويصادرون الوطن، ثم يدعون الشعب إلى الرقص على إيقاعات الانتصار في مباريات المسابقات الأفريقية.

كان التجلّي الأوضح لهذه الاستراتيجية في الفترة التي كان منتخب مصر من أهم أسلحة الدعاية لتسويق جمال مبارك وريثًا على العرش، وأذكر أنني كتبت وقتها "مهما بلغت روعة إنجاز المنتخب فإنه يبقى انتصارا كرويا كاملا فقط، بينما تنعم بقية الأصفار التى تملأ حياتنا باستقرارها ونومها الهادئ".

الآن، يلعبون بقضية لاعب الأسكواش، للاختباء من كوارث التفريط في مياه النهر، وفي جغرافيا الوطن وتاريخه، وخرائطه الحضارية والإنسانية، رافعين شعاراتٍ تعبّر عن أردأ تعريفات الوطنية.

المصدر: العربي الجديد