اعلم أيها الأخ الداعية، أن الله لا بد مبتليك.. وأنه لا بد ممتحنك.. وصدق الله العظيم حيث يقول: { الم.. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} وفي الحديث:" أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، " ان الله تعالى اذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".

فدعوى الايمان بحاجة إلى دليل، وطريق الجهاد طويل تحفه الشدائد وتكتنفه المصاعب " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".

والداعية في هذا الطريق إن لم يكن في حصن من الله، وعلى صلة به، واتكال عليه، واعتصام بكتابه، واتباع لسنة نبيّه، فهو على خطر كبير وفي شر مستطير..

ولقد أجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم التحديات والشدائد التي تواجه المؤمنين به والدعاة اليه، والمجاهدين في سبيله فقال: "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، وشيطان يضله، ونفس تنازعه" أخرجه أبو بكر بن لال من حديث أنس في مكارم الأخلاق.

ولقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا عن الفتن والشدائد _ كل الفتن والشدائد_ التي يمكن أن يتعرض لها الدعاة إلى الله ليحذروها، وليأخذوا لدربهم من الزاد ما يمكنهم من مغالبتها ومجاوزتها..

فلننظر في كل واحدة من هذه الشدائد.. في أخطارها وآثارها، وفي أسباب الوقاية منها.. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها..

أولا: مؤمن يحسده:

  ان الحسد من أمراض القلوب الفتاكة، وقد يذهب بإيمان المؤمن ان لم يثُب لرشده ويتب إلى ربه، وتتداركه عناية الله ورحمته. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "دبّ اليكم داء الأمم من قبلكم، الحسد والبغضاء. والبغضاء هي الحالقة. أما أني لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" رواه البيهقي ويقول: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من الحرص على المال والحسد في دين المسلم. وإن الحسد ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". رواه الترمذي.

والدعاة إلى الله عز وجل وخاصة أن الموفقين منهم والنشيطين والمرموقين منهم والموهوبين، معرضون لألسنة الحاسدين وكيدهم.. يحسدونهم على علمهم وعلى كل خصلة من خصال الخير فيهم، ثم يتحينون الفرص للايقاع بهم وتحطيمهم..

يقول ابن المعتز:" الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يمكله، طالب بما لا يجده".

ولقد أمر الله تعالى نبيّه ان يستعيذ وأمته من أذى الحاسدين فقال: { قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق* ومن شر غاسق اذا وقب* ومن شر النفاثات في العقد* ومن شر حاسد اذا حسد}.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حذر من الحسد والتحاسد ومن البغض والتباغض، ومن التنافس والتدابر فقال:" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، وأشار إلى صدره.. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.. كل المسلم على المسلم حرام دمه، وعرضه وماله" رواه مالك والشيخان أبو داود والترمذي.

  والذين يحسدون الدعاة على ما آتاهم الله من فضله وعلى ما وهبهم من علمه، نفوسهم عليلة، وقلوبهم مريضة، تسوّل لهم المكر بإخوانهم تشافيا وإطفاء لغلواء الصدور. تماما كما سوّلت (لقابيل) نفسه أن يقتل أخاه ( هابيل) حسدا وسخطا وضغينة وحقدا، فقال الله تعالى: { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، اذ قرّبا قربانا، فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، قال لأقتلنّك، قال إنما يتقبّل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديّ لأقتلك اني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين. فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين} المائدة.

ودعوة الاسلام على مدار التاريخ القديم والحديث شهدت حوادث ذات أبعاد مأسويّة كان الحسد أحد أبرز أسبابها..

لا أعني حسد الأبعدين وإنما حسد الأقربين.

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

                              على المرء من وقع الحسام المهنّد

فكم من قادة وأئمة اتهموا زورا وبهتانا، وأشيعت حولهم الشائعات والأراجيف بسبب حسد حاسد مريض النفس لا  يرعى فيمن حوله إلّا ولا ذمّة..

وكم من فتن أوقدت وأحقاد سعّرت بسبب حسد النفوس.

بل كم من صفوف تداعت وتصدّعت، وتبعثرت جموعها بفعل حسود حقود خسيس سار بالفتنة دون أن يخشى الله رب العالمين.. ودون أن يلتفت إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّي ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه. ثم تلا قوله تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا}.

وآفة الحسد هذه في تفاقمها وهياجها تدفع بصاحبها أو أصحابها إلى ارتكاب كل الحماقات وإلى استحلال كل المكروهات والمحرمات_ كالنار في اندلاعها وهياجها تحرق الأخضر واليابس دون أن تلوي على شيء.

فقد تسوّل للحاسد نفسه أن يكذب، ويلفق، ويختلق؛ لينال من غريمه الذي يحسده.. وليته قبل أن يفعل قد أدرك عاقبة أمره، وسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمثاله: "أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة هو منها بريء، يشينه بها في الدنيا، كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال" رواه الطبراني.

وقد يقع الحاسد في الغيبة والنميمة وهو يظن أنه يحسن صنعا.. ويبرر له شيطانه سوء عمله ليسقطه في الفتنة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51}.

  وليت الحسود يعلم أن عاقبة أمره خسرا.. وأن الله قد أعد له ولأمثاله عذابا نكرا، وخاصة الذين يصرون على الفتنة ولا يرعوون أو يرتعدون ويتوبون، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه. وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه" رواه الطبراني، وقال صلى الله عليه وسلم:" من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه يوم القيامة، فيقال له: كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويضج" رواه الطبراني، ويقول صلى الله عليه وسلم: "الغيبة أشد من الزنى، قيل: وكيف؟ قال: الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له، حتى يغفر له صاحبه" رواه الطبراني والبيهقي.

ويبيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الغيبة فيقول:"أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وان لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".

منقول بتصرف من كتاب – قوارب النجاة في حياة الدعاة – للأستاذ فتحي يكن -رحمه الله