" مِنَ المُؤْمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَاعَاهَدُوا اللهَ عَلَيّهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَه ومَنْهُم مَنْ يَنْتَظِر ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلَا " سورة الأحزاب – الآية 23 "     

الرئيس الشهيد

حينمـا يُعزِّي أحرارُ العالم بعضُهم بعضاً في وفاةِ رجلٍ، وحينما تَبكِيه عُيـونُ عُشـاقِ الحُرية، وحينمـا تَحزن لموتِه قلـوبُ السائرينَ على طريقِ الحقِ، وحينما تقام عليه صلاةُ الغائبِ في كلِّ بِقاعِ الأرضِ بِدايةً من المسجد الأقصى حتى أن الرجلَ إن كان وحيداً أو مستضعفاً في مكان يَجْمَعُ أهل بيته ويؤُمهُم للصلاة عَليه، إذن نحنُ أمامَ أمةٍ فقدتْ زعيماً حقيقياً صنعتُه أعمالُه وهمتُه وصمودُه وثباتُه وصدقُ توجُهِهِ وصفاءُ نيتِه، و نحنُ أمامَ قائدٍ تًجَسدَ فيه النُبلُ البشرىُّ، وأمَامَ رائدٍ لم يُردْ لوَطنِه وأمَّتهِ إلاَّ الخَيرَ ، وبينَ يدي رئيسٍ لم يكذُبْ شَعْبَه، ولم يَخُنْ اللهَ فيهمْ ، وسَعَى بكلِّ ما أُوتِي لرفَاهيتهم، وَوَجَبَ على كلِّ منْ رُزِقَ مُعَايشةَ زَمانِه أنْ يُعَلِّمَ أبناءَه وأحفادَه أن الرئيس الشهيد الدكتور  محمد مرسي وإخوانَه كانوا رجالاً لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون أبداً على رأى الفسدةِ، ولا يُعطُون الدنيةَ مِنْ وَطَنِهم أوشَرْعِيِّتِهِم أوْ دِينِهم.  

.. نحن الآن أمام رجل أقل مايوصف به أنه غريب زمانه ، ويكأنه جاء من عصر الصحابة والتابعين، رفض الرئيس محمد مرسي الراتب الرئاسى، واكتفى بمعاشه من الجامعة، كما رفض هو وزوجته الفضلى السيدة نجلاء محمد الإقامة فى القصور الرئاسية، وظل الرئيس وزوجته وأولاده في شقتهم المؤجرة فى التجمع الخامس بالقاهرة ، يعمـل طـوال اليـوم بمكتبه بالقصر الرئـاسي، ثم يرجع آخـر اليـوم إلى شقتـه المتواضعة جدا فيبيت فيها .                  

.. كان لا يأكل طعاما إلا من بيته، وإن تطلب الأمر ضيافة كان يطعم ضيوفه - بشهادتهم - مما يأكل منه أبسط الناس في مصر .                                    

.. كل الهدايا التى تأتي إليه أو إلى وزرائه حولها إلى خزينة الدولة، ولما سجلت معه بعض الفضائيات وكتبوا له شيكا بالملايين أمر أن بكتب الشيك باسم البنك المركزى المصرى.

رفض الرئيس محمد مرسي كل محاولات المساومة على أن يخرج سالماً من المشهد السياسي مقابل الاعتراف بالانقلاب، وفى مقابلة له مع " كاثرين أشتون "  ممثلة عن الاتحاد الأوربى ، والتى عرضت عليه قبول الوضع الحالى في مقابل سلامته الشخصية لكنه رفض عرضها، فقالت له: الناس كلها ضدك؛ فقال لها: لو كان الناس كلهم ضدى ما كنت جئت إلى هنا للتفاوض معي .              

أرسل الدكتور محمد مرسي رسائل للشعب المصرى من خلف القضبان جاء فيها :                                                                          

" ولا يفوتنى أن أعلن بكل وضوح أنني رفضت ومازلت أرفض كل محاولات التفاوض على ثوابت الثورة ودماء الشهداء، لا اعتراف بالانقلاب، لاتراجع عن الثورة ، ولا تفاوض على دماء الشهداء "    .

  تأبى مسيرةُ الحقِ والخيرِ إلا الصمودَ والثباتَ، وتقدِّم في سبيل المبادئِ والقيمِ أرواحاً زكية ونفوساً طاهرة ، مسيرةٌ بدأت مُنْذُ فجر تاريخ الإنسانية على الأرض ، ومستمرةٌ حتى يأذن الله ، وهؤلاء الرجال إنما هم نجوم تهتدى بهم البشريةُ في عتمة الليل البهيم ، ويجد كلُّ مظلومٍ في سيرتهم سلوى لهمه، وذَهاباً لغمه ، وهم رغم قلتهم وندرتهم لكنهم يزلزلون بثباتهم عروشَ الطواغيت .

  رأينا هؤلاء الرجال ولمسنا مواقفهم يوم أن حوصر سيدنا عثمان بن عفان فى بيته من غوغاءِ الناس، فرفض أن ينصاع لهم؛ لتبقى قيم الشورى والبيعة والحق عالية شامخة، وهذا الحسين بن على - رضى الله عنه وصلى الله وسلم على جده - يوم أن رفض بيعة بها تنكث العهود ، ويوسد الأمر لغير أهله، وقاوم هو وأهل بيته حتى استشهدوا جميعاً يوم كربلاء، فكانت دماؤهم الطاهرة لعنة على بنى أمية ، وبعد سنوات انتصرت دماء الحسين على سيوف يزيد بن معاوية ، وزالت دولتهم وتشتت ملكهم ، وسلط الله عليهم من يسومونهم سوء العذاب .                                                                                       

مات الحسين الشخص - وكلنا نموت - لكن بقى الحسين الرمز و الفكرة،  فالأفكار لاتموت . وهاهو شيخ المجاهدين عمر المختار الذى حيَّر دولة عظمى، وكان آخر ماقاله قبل استشهاده :

 " إننا نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار غير ذلك، إنا لله وإنا إليه راجعون "   مات عمر المختار الشخص وبقي عمر المختار الرمز الذى تستدعيه أمته في كل نوائبها فتجده الجبلَ ثباتاً وشموخاً .

.. وهذا هو الإمام الشهيد حسن البنا يقف وإخوانه أمام أكبر إمبراطورية للشر حينئذ، حاربوا اليهود والفساد والظلم، ثم لقى الله شهيدا، مات حسن البنا نعم لكن أحيا الله بموته دعوته وفكرته، وذاع صيته وسيرته فى العالمين .

.. وهذا هو الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي .

   يقف ثابتاً على المبدأ كمافعل سيدنا عثمان ، متمسكا بالحق والشرعية ، وفى شموخ أصحاب الحق كما الحسين ، وفى همةٍ كما عمر المختار ، وفهمٍ وإخلاصٍ مقتفياَ أثر شيخه  الأستاذ الإمام حسن البنا ، وكان آخر ماتكلم به محمد مرسي قبل الانقلاب عليه  كلمته الشهيرة التى تكتب بمداد من ذهب التي ألقاها يوم 2 يوليو 2013 م :                         

  " حافظوا على مصر ، حافظوا على الثورة ، ثمن الحفاظ على الشرعية  حياتى، حياتى أنا، أنا عاوز أحافظ على حياتكم كلكم، أنا عاوز أحافظ على الأطفال ولادنا اللى هيكبروا بعدنا ، أنا عاوز أحافظ على البنات أمهات المستقبل ، ويعلموا أولادهم إن أباءهم وأجدادهم كانوا رجالا لا يقبلون الضيم ولاينزلون أبدا على رأى الفسدة ولا يعطون الدنية أبدا من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم "   

.. ارتقى الدكتور محمد مرسى شهيداً يوم 17يونيو 2019 أثناء محاكمته ، قتلوه بالإهمال الطبى، وحرمانه من أبسط حقوقه فى زيارة أهله والمحامين له ، منعوا عنه كل شيء الطعام الصحي، والماء النظيف، والكشف الطبي الذى طالب به، والدواء، منعوا عنه حتى المصحف الذى يتعبد الله به، وكانت سلواه أنه يحفظ القرآن كاملاً ، قَتلٌ بطئٌ ممنهجٌ ؛ أدّى إلى سقوطه مغشياً عليه في المحكمة، ثم تركوه أكثر من عشرين دقيقة يعانى وحده في قفص الاتهام بالمحكمة ، حتى فاضت روحه الطاهرة إلى باريها تشكو ظلم الأهل وأبناء الوطن ، وهو الذى كان يهتف قبل موته بدقائق في المحكمة :                           

بلادى وإن جارت علىَّ عزيزة           وأهـلى وإن ضنـوا علـىَّ كرامٌ .

   .. مات محمد مرسي وكلُّ النَّاس يموتون، لكنَّ الله أحيا بموته قضيته، ولم تخلُ دولةٌ في العالم إلا بكاه أناسٌ من أهلها، وأقيمت عليه صلوات الغائب في كل بقاع الأرض، بدايةً من المسجد الأقصى أول مكان صُلِي عليه فيه صلاةُ الغائب، ومرورا بالمسلمين في الدول الإسلامية كافة، وانتهاءً بالأسر والعائلات الذين تجمعوا طواعية لصلاة الغائب عليه.            

.. رحل الدكتور محمد مرسي عزيزا، كريما، شامخا، متواضعاً، نبيلاً، ثابتاً على مبادئه، صلبا في الحق ووفيا للثورة .

.. رحل نعم ، لكن  ستبقى ذكراه تزلزل عروش الطغاة، وتؤرق بقاءهم، وتطاردهم، كما قال الشاعر هاشم الرفاعى :

لكـن إذا انتـصر الضيـاء ومُـزِقَـتْ     بـيـدِ الجُمــوعِ شـريعَـةُ القُــرْصَـانِ

فلـسـوف يذكـرنــى ويُكْـبرَ همتـى      مَـنْ كـان فـى بلـدى حَلـيفَ هــَوان

وإلـى لقــــاءٍ تحـتَ ظــلِ عــدالــةٍ      قُــدسـيـــةٍ الأحـكـــامِ والمـيـــزان

   .. مات الرئيس محمد مرسي وتأبى ذكراه على النسيان .  

    منقول بتصرف من كتيب – الرئيس الشهيد – إعداد مجموعة من الباحثين .