ثالثاً : الصبر

واجتذاب الناس واستيعابهم يحتاج من الداعية إلى صبر عليهم لا إلى ضيق بهم وتبرم منهم ..

فالناس أصحاب أمزجة شتى، وعيوب شتى، وطباع شتى، وحاجات ومصالح شتى .. والناس مشاكلهم كثيرة، وهمومهم كبيرة، يحتاجون إلى من يتسع لهم ..

والناس غير مؤدبين بأدب الإسلام، وغير متخلقين بخلق القرآن، وهم بمسيس الحاجة إلى من يعايشهم ويتعايش معهم؛ ليسبر أغوارهم، ويعالج أمراضهم، وهذا يحتاج إلى صبر طويل ..

والهداية لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى نفوس الناس وقلوبهم دفعة واحدة، ولا بد لذلك من زمن ومتابعة وجهود تبذل لتؤتى أكلها بإذن ربها .. وهذا يحتاج كذلك إلى صبر ..

والناس أصحاب حاجات مختلفة، ومنهم من لا يرى في الكون حاجة أهم من حاجته، وصاحب الحاجة أرعن، قد لا يلقى بالاً إلا ما يقول لك، وقد لا يبالي بالساعة التي يقرع فيها بابك من غير موعد أو إشعار، وقد تكون هذه الزيارة في وقت طعامك أو منامك أو راحتك، وهذا يحتاج لتحمله إلى صبر على التوجيه الناعم ولفت النظر، وإلا وقعت بينك وبينه الواقعة، وانقلب عدواً حاقداً لا يرعى إلاً ولا ذمة ..

أعرف بعض العاملين في الحقل الإسلامي لا يستقبلون الناس إلا ضمن مواعيد مسبقة، فإن جاءهم من ليس على موعد صرفوه، أو قال لهم أهله إنه ليس موجوداً وهو يعلم أنه موجود .. وتصور عندئذ كيف ستكون النتيجة .. وأعرف آخرين يعطلون (الهاتف) أثناء قيلولتهم وليكن من بعد ذلك الطوفان .. وآخرون يمتنعون بالمرة عن استقبال أصناف من الناس لمعرفتهم المسبقة بأنهم متعبون ..

إن هؤلاء وأولئك قد يكونون معذورين من قريب أو بعيد ولكن الشيء الذي لا خلاف فيه هو أنهم في الدعوة فاشلون وأن الناس عنهم سيعرضون ..

إن الداعية بحق هو الذي يعيش لغيره لا لنفسه، وتهمه سعادة غيره، ولو على حساب سعادته، هو ويتجرع الغيظ في ذلك، وهو على يقين بأنه سيتحول في جوفه إيماناً وسيكون له ذخراً عند الله يوم الحساب، وصدق إمام الصابرين محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (( ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ كظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله بها جوفه إيماناً )).

إن نقل إنسان من الضلال إلى الهدى والأخذ بيد إنسان من الظلمات إلى النور ليس له هذا الأجر الجزيل عند الله والمثوبة العظمى يوم القيامة كما جاءت به أحاديث كثيرة لولا أن هذه العملية تحتاج من الداعية إلى صبر طويل وتحمل واحتمال ..

فقد تحتاج إلى أن تصرف معه أوقاتاً طويلة من أوقات عملك أو راحتك، وقد تحتاج إلى أن تسمع له، وتنصت وتنصح له، وتذكره، وتزوره، وتهاديه.. كل ذلك من غير ملل أو تبرم أو ما يشعره منك بذلك فإن وقع ذلك حبط العمل، وفشلت المحاولة، وذهبت الجهود سدى ..

أعرف أحد الدعاة الموفقين الذين يتقربون إلى الله بصبرهم على متاعب الآخرين وبخاصة أن كل ذلك طريق إلى هداية هؤلاء، والأخذ بأيديهم إلى واحة الإسلام .. وكان لهذا الداعية قريب أدمن الخمر إدماناً مفرطاً جعله منبوذاً من عائلته ومحيطه لا يكاد يجد بيتاً يؤويه أو إنساناً يكلمه إلا من كان على شاكلته ..

ومرة قرع الباب على (الداعية ) ولما فتح وجد نفسه وجهاً لوجه أمام ذلك المنبوذ والذي يكبره بعشرات السنوات .. وبحنو الهداية طلب منه الدخول فدخل الرجل متعثراً بخطاه مستغرباً هذا الصنيع، وقد تعود أن تركله الأقدام خارج البيوت، ويقذف في وجهه البصاق بلا حساب ..

دخل الرجل وبدأت بدخوله مسيرة الصبر الطويلة أياماً وأسابيع إلى أن أشرقت شمس الإيمان في قلبه، وبدأت ثمار الهداية تؤتى أكلها فيه بإذن ربها ..

صلح الرجل وحسن إسلامه، وأصبح ملازماً للداعية لا يكاد يفارقه .. إلى أن حدث ما لم يكن بالحسبان .. فقد أدخل (الداعية) مستشفي لإجراء جراحة عاجلة .. ولقد أجريت الجراحة بالفعل كان الرجل المهتدي خلالها على أعصابه يردد الدعوات، ويصعد العبرات من شدة خوفه على من كان سبباً في هدايته .. ولقد أقسم أن يبقى قرب سريره ليل نهار يخدمه بعينه ويرد له بعض ما عليه .. وأخيراً كانت الطامة حين منع الرجل من الدخول إلى غرفة الداعية بعد العملية وعندما جاء مستفسراً محتجاً على ذلك صفعه كبير أصحاب الداعية على وجهه صفعه قوية كانت كافية لهدم كل شيء، ولتحويل هذا الإنسان الذي حطمت بلحظة واحدة مشاعره وأحاسيسه إلى عدو للإسلام والمسلمين .

من هنا كان طريق هداية الناس طريقاً صعباً على النفوس الضعيفة، والإرادات العاجزة، والذين لم يؤتوا حظاً من الصبر ونصيباً من سعة الصدر ..

ومن هنا جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحض على الصبر وتعرض لمقام الصابرين :

فمن كتاب الله قوله تعالى :

{ واستعينوا بالصبر والصلاة } { فاصبر على ما يقولون } { وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم } {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } {إن الله مع الصابرين } { وبشر الصابرين } { إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب } { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا } .

{ ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }.

ومن مشكاة النبوية في الصبر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( الصبر معول المسلم ))

(( ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر ))

((ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر ))

(( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ))

(( الصبر شطر الإيمان )) .

(( وعن ابن المسيّب رضى الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر رضى الله عنه فآذاه فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة فانتصر أبو بكر .

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أوجدت على يا رسول الله؛. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك . فلما انتصرت ذهب الملك، وقعد الشيطان فلم أكن لأجلس إذن  مع الشيطان ))

(( ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله )).

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .