صم يوما شديد الحر ليوم النشور.

وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور.

وحج حجة لعظائم الأمور.

وقل كلمة حق، وأمسك عن كلمة باطل.

وتصدق بصدقة وأخفها.

إن الدعاة إلى الله في دربهم الطويل وفي طريقهم الوعر، وفي مواجهة التحديات والمحن، بحاجة إلى شيء أساسي لا غنى لهم عنه، ولا ثبات لهم بدونه، بحاجة إلى مدد من الله وعون منه..

وعندما اصطفى الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة، تعهده في غار حراء، وصنعه على عينه، وأدبه فأحسن تأديبه، وزوده بما يمكنه من حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، وابتعاث خير أمة أخرجت للناس { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض، ألا إلى الله تصير الأمور}.

واذا كان هذا حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يجب أن يكون حال الدعاة من بعده؟ إنهم أشد حاجة إلى أن يتزودوا لسيرهم الطويل، ويأخذوا بالأسباب التي تعينهم على المضي على الجادة من غير انحراف أو التواء..

لقد بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعاد الطريق ومخاطره وبخاصة في آخر الزمان فقال: " يا معشر المسلمين.. شمّروا فإن الأمر جد.. وتأهبوا فإن الرحيل قريب.. وتزودوا فإن السفر بعيد..وخففوا أثقالكم، فإن وراءكم عقبة كئودا لا يقطعها إلا المخففون.. أيها الناس.. إن بين يدي الساعة أمورا شدادا وأهوالا عظاما وزمانا صعبا، يتملك فيه الظلمة، ويتصدر فيه الفسقة.. فيضطهد فيه الآمرون بالمعروف ويضام الناهون عن المنكر. فأعدوا لذلك الإيمان.. عضوا عليه بالنواجذ، والجئوا إلى العمل الصالح، وأكرهوا عليه النفوس، واصبروا على الضراء تفضوا إلى النعيم الدائم".

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى الزاد الذي يجب أن يستعيم به دعاة الإسلام على سفرهم هذا؟ فقال لأبي ذر سائلا : " لو أردت سفرا أعددت له عدة؟ قال: نعم . قال: فكيف بسفر طريق القيامة؟ ألا أنبئك بما ينفعك ذلك اليوم؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال:

صم يوما شديد الحر ليوم النشور..

وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور..

وحج حجة لعظائم الأمور..

وتصدق بصدقة على مسكين..

أو كلمة حق تقولها..

أو كلمة شر تسكت عنها..

فلنتناول كل واحدة من هذه الوصايا بشيء من التفصيل..

صم يوما شديد الحر ليوم النشور

إنها دعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سلك سبيل الله من المؤمنين والدعاة إلى ترويض النفس، وتعويدها على شظف العيش وخشونة الحياة، وحرمانها أحيانا مما تحب وتهوى حتى يسلس قيادها ويسهل مقادها " اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم".

إنه أسلوب عملي في التربية الربانية.. أسلوب له أثره العميق في تهذيب النفس وتشذيبها، وفي تعبيدها لله رب العالمين.

إنه لا يكفي أن نؤمن بالله إيمانا نظريا، أو نتكلم عن التربية الربانية كلاما لا يجاوز الألسن أو الآذان.. بل لا بد من ممارسات عملية تستخلص النفس من أدرانها وشوائبها، وترتقي بها في مدارج الكمال..

والصوم أحد أبرز الرياضات النفسية.. فهو يقويّ الإرادة، ويجعل للإيمان والتقوى قوامة على الجسد وحاجته العضوية.. بل يجعل الجسد مطية الروح..

فبالصوم يرهف الحس، ويتعاظم الشعور، ويصفو الفكر، وتشف النفس..

ولهذا كان ثواب من صام لله إيمانا واحتسابا في أيام شديدة الحر، أن يعافيه الله من حر يوم القيامة.. فالجزاء من جنس العمل، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.

إنه قياس مع الفارق الكبير، والكبير جدا أن يقيس بين حر الدنيا وحر الآخرة، وبين مشقة الصوم في يوم حار ومشقة يوم النشور، ولكنه كرم الله وفضله: { يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه. كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى}.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا.. قلت: يا رسول الله: النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" رواه البخاري. وصدق الله تعالى حيث يقول: { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم" رواه مسلم.

ويقول:" فيكون الناس على أقدار أعمالهم من العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما" رواه مسلم.

هذا الكرب العظيم يدفعه عن المؤمن صدق إيمانه، وصدق التزامه بدينه، وحسن ظنه بالله، وتقرّبه إليه بالصوم والصلاة وسائر العبادات والطاعات.. وهذا ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي عائشة فيقول:" أديمي يا عائشة قرع باب الجنة بالجوع".

ولهذا ضاعف الله أجر الصائمينن، وأجزل لهم الثواب فقد جاء في الحديث القدسي:" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي".

ولقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام الصائمين الذين استعلوا على أهوائهم وغرائزهم وألجموها بلجام التقوى فقال: " إن في الجنة بابا يقال له الريّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل أحد غيرهم، فإذا دخلوا غلق فلم يخرج أحد".

ثم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أن الصوم يكون حجابا بين صاحبه وبين النار فقال: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا".

وعن ابن عباس أن رسول الله بعث أبا موسى الأشعري على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا القلاع في ليلة مظلمة، إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة، قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه.. قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش" الترغيب والترهيب.

وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أن الصوم يشفع لصاحبه يوم الفزع الأكبر فقال:" الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني به، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني به. قال: فيشفعان".

فليجاهد الأخ الداعية نفسه بالصوم فإنه من أقوى عوامل تزكية النفس وتصفيتها؛ لتقوى على المضي في طريق القيامة في حفظ من الله وأمان..

وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور

وفي الوصية الثانية يحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل، ويبيّن فضلها وعظيم أثرها في الدنيا والاخرة فيقول:" وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور".

كانت صلاة الليل الوقود الأساسي في موكب النبوة الذي بدأ بـ { يا أيها المزمل} وانتهى بـ { يا أيها المدثر قم فأنذر}.

فصلاة الليل لا يعدلها زاد ولا مدد.. فهي تمد المؤمنين وترفدهم وتزودهم بطاقات وامكانات فوق مستوى التصور والتقدير.. ذلك أنها عطاء من الله ومنة منه، وصدق الله تعالى حيث يقول:" إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا".

ولقد بيّن لنا رسول الله ما لصلاة الليل من فضل عميم فقال: " عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة، لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهات عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد". رواه الطبراني والترمذي.

وروي أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" رواه الطبراني.

فصلاة الليل تعد الأخ الداعية ليكون عبدا ربانيا، موصولا بالله، مشرق النفس، نيّر القلب، حاضر الذهن، متقد الفكر.

والداعية إن لم يكن متصفا بهذه الصفات فهو ليس بداعية.. وبلاء الإسلام اليوم في دعاة ليس لهم من مواصفات الدعاة وأخلاق الدعاة سمات الدعاة شيء..

وصلاة الليل لا يمكن اعتيادها من غير مجاهدة نفس ومبارزة شيطان ومقاومة هوى، وبخاصة في أول الأمر.. فلقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال:" إذا {أراد العبد الصلاة من الليل أتاه ملك فيقول له، قم فقد أصبحت، فصل وارذكر ربك.. فيأتيه الشيطان فيقول، عليك ليل طويل وسوف تقوم، فإن قام فصلى أصبح خفيف الجسم قرير العين، وإن هو أطاع الشيطان حتى أصبح بال في أذنه".رواه الطبراني.

ولقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القيام في ظلمة الليل وبين الأنس في وحشة القبور:" وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور" فالذي أنار ليله بعبادة الله وطاعته كان حقا على الله أن ينير قبره بفضله ورحمته.

لله ما أجزل العطاء، أن يكون ثواب العبد من ربه لركعات قامها في اليل نجاته من عذاب القبر.. ومن ظلمته ووحشته وغربته؟

وأية وحشة هي تلك الوحشة التي ينجو منها من تتجافى جنوبهم عن المضاجع..

ولقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبر وعذابه فقال:" إن القبر أول منازل الاخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد".

وقال مجاهد:" أول ما يكلم ابن آدم حفرته فتقول: أنا بيت الدود وبيت الغربة وبيت الظلمة، هذا ما أعددت لك فماذا أعددت لي".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات العبد أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لهما منكر ونكير.. فيقولان له ما كنت تقول في النبي؟ فإن كان مؤمنا، قال هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراع، وينوّر له في قبره.. وإن كان منافقا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئا وكنت أقوله. فيقولان، إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض التئمي عليه حتى تختفي أضلاعه".

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" يؤتى الرجل في قبره – أي بالتضييق- فإذا أتي من قبل يديه دفعته الصدقة.. وإذا أتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المساجد".

ولقد حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحف موسى فقال:" كانت صحف عبر كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن اليها، عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل".

وحج حجة لعظائم الأمور

والشحنة الإيمانية الثالثة التي يجب أن يتزود بها دعاة الاسلام وهم في سيرهم على درب الآخرة هي حج بيت الله تعالى..

فمناسك الحج من أقوى المولدات الربانية التي تمد الدعاة الى الله بطاقات ايمانية هائلة، وتنقّي أنفسهم من رجس الجاهلية ومضلات الهوى.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:" من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه. ويقول:" العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة". متفق عليه.

ولهذا فرض الله تعالى على عباده حج بيته.. وجعله أحد أركان الاسلام، فقال تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.

وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بني الإسلام على خمس:" شهادة أن لا اله الا الله.. وأن محمدا رسول الله.. وإقام الصلاة.. وإيتاء الزكاة.. وصوم رمضان.. وحج بيت الله الحرام".

وروي عن علي أنه قال :" من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر في وصيته:" وحج حجة لعظائم الأمور" يفيد الحض على التطوع فضلا عن الفريضة.. فقد سن الرسول الإكثار من الحج والعمرة تطوعا لما ثبت في الصحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم :" يا أيها الناس، ان الله قد فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل، أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت لكم نعم لوجب ولما استطعتم. ثم قال، ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

في ضيافة الرحمن

إن من تكريم الله تعالى لحجاج بيته وعماره، أنه وعدهم الحسنى والمغفرة، واعتبرهم وفده وضيوفه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:" الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزواره، إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوا استجيب لهم" ابن حبان.

فأكرم بها من ضيافة.. وأكرم بها من وفادة، في رحاب البيت العتيق، وفي ظل رحمة الله تعالى ورضوانه، وفي البقعة المباركة التي هبط فيها الوحي ودرجت عليها أقدام النبوة وحفتها ملائكة السماء.. وإلى هذا أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن الله عز وجل قد وعد هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف، فإن نقصوا أكملهم الله عز وجل من الملائكة" وقال عليه الصلاة والسلام:" ينزل على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة.. ستون للطائفين.. وأربعون للمصلين.. وعشرون للناظرين" رواه ابن حبان والبيهقي.

الإحرام والتلبية

فبالإحرام.. ينسلخ المؤمن من الأسباب التي تشده إلى ترابيته.. فيمضي حيا بكفن الأموات، يتساوى مع سائر خلق الله.. فلا مقامات ولا وجاهات، وإنما سواسية كأسنان المشط.. يمضي أشعث أغبر ملبيا نداء الرحمن، مرددا: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" يرددها وهو خائف وجل أن يقال له:" لا لبيك ولا سعديك" فقد روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما لما أرحم للحج واستوت به راحلته، اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي. فقيل له، لم لا تلبي؟ فقال:" أخشى أن يقال لي لا لبيك ولا سعديك" عن سفيان بن عيينة..

الطواف

وبالطواف.. يتحقق الاتصال بالملأ الأعلى.. فتحاكي الروح ملائكة الله الحافين حول العرش{ وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}.

الاستلام

وأما استلام الحجر الأسود فيدرك الداعية أنه مبايع لله عز وجل على طاعته وعلى الجهاد في سبيله.. وانها بيعة ثقيلة { فمن نكث فانما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما}.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: " الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح به خلقه، كما يصافح الرجل أخاه". حديث ابن حبان.

التعلق بأستار الكعبة

وأما التعلق بأستار الكعبة فهو انكسار الحاج بين يدي الله تعالى والحاجة إلى طلب عفوه ورضاه.. فقال تعالى: { ادعوا ربكم تضرّعا وخفية} وقال:{ ادعوني أستجب لكمْ. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا أحب الله عبدا ابتلاه حتى يسمع تضرّعه" مسند الفردوس للديلمي، وقال صلى الله عليه وسلم:" إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء" ابن حبان.

السعي

وأما السعي فإنه شدة الحاح المؤمن في استمطار رحمة الله عليه.. ففي ترداده للدعاء المأثور " رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" شعور بالصراعة بين يدي قوي عزيز.

الوقوف بعرفة

وأما الوقوف بعرفة.. فيجب أن يهز النفس هزا، ويشدها شدا؛ لتذكر يوم الحشر{ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} { وإن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون}.

ولهذا كان الموقف في عرفة لا يضارعه موقف.. بل لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة" وقال:" إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة".

روي عن أحد الصالحين.. "إن ابليس ظهر له في صورة شخص بِعَرَفَة، فإذا هو: ناحل الجسم، مصفر اللون، باكي العين، مقصوف الظهر، فقال له: ما الذي أبكى عينك؟ قال: خروج الحاج إليه بلا تجارة.. قال: فما الذي أنحل جسمك؟ قال: صهيل الخيل في سبيل الله ولو كانت في سبيلي كان أحب اليّ. قال: فما الذي غير لونك؟ قال: قول العبد، أسألك حسن الخاتمة".

رمي الجمار

وأما رمي الجمار فهو تصميم من الداعية على محاربة الشيطان وحزبه، ومجانبة الهوى، والاستقامة على شرع الله..

إنه توطيد العزم على المضي في طريق الحق والهدى لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله..

إنه العهد على إفراغ الجهد، قولا وعملا وجهادا، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى { ألم أعهد يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون}.

الذبح

وأما ذبح الهديْ.. فهو قربى إلى الله تعالى من جانب، وترجيع في النفس لقصة إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال لابنه: { يا ابني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.

وما أحوج دعاة الإسلام اليوم إلى أن يسترجعوا هذه الحوادث والمواقف الإيمانية الفريدة.. فهي تمثل قمة الرضا والقبول بقضاء الله تعالى حيق يقول: { ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم..}.

وتصدق بصدقة وأخفها

والوصية الرابعة التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:" وتصدق بصدقة وأخفها".

إن الوصايا الثلاث السابقة، تتعلق بالنفس ومجاهدتها وتزكيتها؛ لتكون نفسا ربانية تفيض بالخير والنور والهدى والطهر على الناس، وتمشي فيهم بالحق.. أما الوصية الرابعة فهي دعوة إلى ترجمة التزكية النفسية إلى عمل، وإلى تحويل الإيمان إلى فعل إيمان..

ويبدو أن الانفاق في سبيل الله، والجهاد بالمال، أصدق دليل على عافية النفس وصحتها.. وأن الشح والبخل والإمساك دليل مرضها وسقمها..

ولهذا جاءت صفة الإنفاق ملازمة لصفة الإيمان في أكثر من آية، بل فيد عدد كبير من الآيات القرآنية، من ذلك قوله: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} البقرة 2. وقوله:{ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} الأنفال 3 وقوله:{ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والصابرين على ما أصابهم، والمقيمي الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون} الحج 34.

وفي آيات أخرى حض القرآن الكريم على الإنفاق كوسيلة لتربية النفس على حب الخير، وإيثار الآخرين، وبذل المعروف، وتحسس الآلام، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} البقرة 267 وقال: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} البقرة254.

وهكذا يحفل القرآن الكريم بعدد كبير من الآيات التي تحض المؤمنين على الإنفاق مما يؤكد أن بذل المال وإنفاقه في سبيل الله أحد أبرز الآثار الدالة على الايمان..

إن على دعاة الإسلام، وهم يبذلون الكلمة الطيبة للناس من أفواههم وقلوبهم، أن يلبوا نداء الجهاد بالبذل من جيوبهم، كيما يتلازم الجهادان، جهاد النفس وجهاد المال:{ ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.

والذين تفيض نفوسهم خيرا، وجب أن تفيض جيوبهم سخاء وعطاء.. فسماحة اليد من سماحة النفس، وإمساك اليد من إمساك النفس وضيقها..

إن جهاد اللسان سهل وقد ينهض به الكثيرون من غير عناء.. بل قد يقبل عليه كل من يطمع بالحظوة والوجاهة بين الناس.. أما جهاد المال فصعب على الفنوس المشدودة الى الأرض التي تخاف الانفاق خشية الفقر، وصدق الله تعالى حيث يقول:{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد. الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب.. وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار. إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} البقرة 267-271. ولهذا جاء وصف المؤمنين في كتاب الله {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}.

وإن من التوجيهات النبوية في بيان عاقبة البخل والكرم ومقام الممسك والمنفق قوله صلى الله عليه وسلم:" كل يوم ينزل ملكان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا". وعنه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:" أنفق يا ابن آدم ينفق الله عليك" وصدق الله العظيم حيث يقول{ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد}.

وقل كلمة حق أو أمسك عن كلمة باطل

والوصية الخامسة والأخيرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر تتعلق باللسان وأثره وخطره، ولزوم حفظه وصونه، ومراقبته ودوام الحذر منه، قال تعالى:{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. فاللسان على الرغم من أنه أصغر عضو في جسم الانسان، إلا أن خطره كبير وشره مستطير إن لم يلجم بلجام التقوى..

فكم من مقامات سقطت إلى الدركات بسبب من زلات اللسان؟

وكم من فتن وقعت وخلافات استشرت، وأحقاد انتشرت، وكوارث حلت، بسبب من حصائد الألسن " وهل يكب الناس على وجوههم في جهنم الا حصائد ألسنتهم"؟

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من خطر اللسان فيقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" البخاري ومسلم، ويقول:" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" البخاري ومسلم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي المسلمين بعدم الإكثار من الكلام.. وحفظ اللسان عنه إلا كلاما تظهر المصلحة فيه.. ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد يجر صاحبه إلى ما هو حرام ومكروه، والسلامة لا يعدلها شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله تعالى ذو القلب القاسي" الترمذي.

ولقد بيّن رسول الله ما للسان من أثر على الانسان وعلى سلوكه وتصرفاته، وإن في استقامته استقامة الجسد كله، وفي انحرافه انحراف الجسد كله، فقال:" إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا". رواه الترمذي. فوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في شطرها الأول " وقل كلمة حق" إنما هي تحريض على قول الحق.. ومن أولى من دعاة الإسلام بقولة الحق؟

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قول الحق، يجدر بدعاة الإسلام أن يقوموا به لقوله صلى الله عليه وسلم:" كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، أو ذكرا لله تعالى" الترمذي وابن ماجه.

ودوام ذكر الله تعالى والثناء عليه وطلب رضوانه وغفرانه من قول الحق، وحريّ بدعاة الاسلام أن يعودوا أنفسهم عليه ليكونوا معنيين بقوله صلى الله عليه وسلم:" إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات" البخاري.

والنصح للمسلمين والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من قول الحق حريّ بدعاة الإسلام أن ينهضوا بها لقوله تعالى: { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }.

والصدع بالحق في وجوه الطغاة والمفسدين، من قول الحق الذي أمر الله به ورسوله، فقال تعالى: { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وقال صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقول الحق لا أخشى في الله لومة لائم" وقال:" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

أما الشطر الثاني من وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله:" أو كلمة شر تسكت عنها" فهي دعوة الى حفظ اللسان عن أن يرتع في الحرام والشبهات والسيئات. ودعاة الاسلام أحوج الناس الى حفظ ألسنتهم عن كل ما يؤدي الى سفهها وانحرافها وسقوطها.

إن عليهم أن يصونوا ألسنتهم عن غيبة الآخرين في دينهم أو أبدانهم أو أعراضهم أو خلقهم أو دنياهم أو سائر تصرفاتهم سواء كانت فيهم هذه الخصال أم لم تكن.. وليسمعوا إلى وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث يقول:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت" البخاري مسلم ويقول:" كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". كما أن عليهم أن يحذروا النميمة فإنها مجلبة للفتن،موقعة للشحناء والبغضاء، مجلبة لسخط الله تعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة نمام". البخاري ومسلم. ودعاة الإسلام أولى الناس باجتناب فاحش الكلام وبذيئه لقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس المؤمن الطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" الترمذي.

ودعاة الإسلام أولى الناس بالحذر من السخرية والاستهزاء بالآخرين استجابة لأمر الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهن ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}.

ودعاة الاسلام أولى الناس بحفظ ألسنتهم من عادة التقعّر باللسان. والتقعّر هو التشدق وتكلف السجع والفصاحة وتصنّع زخرف القول لقوله صلى الله عليه وسلم:" ان الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة" الترمذي، ولقوله:" وان أبغضكم اليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون" الترمذي.

ودعاة الاسلام أولى الناس بحفظ السنتهم عن قول الزور الذي اعتبره الاسلام من الكبائر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت". البخاري ومسلم.

ودعاة الإسلام أولى الناس بالمحافظة على دين المسلمين وعدم تجريحهم أو تكفيرهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه" البخاري ومسلم.

ودعاة الاسلام أولى الناس بتحري صادق الكلام، خشية الوقوع فيما يعتبر كذبا. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع". رواه مسلم.

إنه لا يليق بألسنة الدعاة التي تلهج بذكر الله تعالى أن تتحرك بما يسخطه!.

وإن الأفواه التي أرادها الله تعالى مستودعا للعلم والطهر والكلم الطيب يجب أن يصونها الدعاة من الدنس والعهر والكلام السيء. وصدق الله تعالى حيث يقول:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما".

من كتاب " قوارب النجاة في حياة الدعاة" للدكتور فتحي يكن -رحمه الله