وائل قنديل

ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي على مدار الأيام الماضية بمقطع فيديو للجنرال، عبد الفتاح السيسي، يعلن فيه نفسه راعيًا رسميًا لفنانة الجرافيك، غادة والي، المتهمة بسرقة أعمال فنان روسي وتنفيذها، مقابل أموالٍ باهظة، في مشروع مترو الأنفاق الجديد بالقاهرة.

في المقطع المتداول، يطلق السيسي ضحكة باتساع جمهوريته الجديدة، وهو يدشّن رعايته الشخصية مشروع فساد تقوده فنانة الجرافيك، في سياق حديثه عن عملية إصلاح شاملة في البلاد، موّجهًا تعليماته إلى وزير الدفاع بتبنّي الفنانة وشقيقتها، ودعمهما لتطوير الهوية البصرية في مدينة الأقصر. وينتفض وزير الدفاع، كما يظهر في الفيديو المتداول، قائمًا من مقعده في احتفالية أقامها السيسي، ليعلن الاستجابة الفورية للتعليمات.

تمرّ الشهور والسنوات، وتُضبط الفنانة الأولى بالرعاية بعملية سرقة فنية مكتملة الأركان، اضطرّت معها الشركة المنفذة لعملية تجميل محطات المترو إلى إزالة الجدارية المسروقة، ليتبيّن أنها من ورق الحائط المطبوع، وليست جداريات حقيقية.

إذن، أزالوا المسروقات، وأخفوا معالم جريمة السرقة، من دون أي إجراءٍ واحد ضد الفنانة، والتي هي بطلة حكاية فسادٍ معلن، بعلم الجنرال الذي يحكم الدولة، وتحت رعايته الشخصية منذ قدّمها شخصيًا في واحدٍ من مؤتمراته باعتبارها النموذج والمثل للطاقات الشبابية المبدعة التي تحتاجها مصر، وآمرًا وزير دفاعه بتقديم كل التسهيلات والدعم لها.

ثمة أسئلة عديدة: ألا يستشعر الجنرال الحرج، وهو يتابع تفاصيل فضيحة السرقة الفنية التي يتحدّث عنها العالم كله؟ بماذا يشعر بعد أن تبيّن أنّ هذا الفساد نما وترعرع واستفحل تحت رعايته الشخصية الشاهد أن هذا الرجل يحكم وطنًا اصطناعيًا ملفقًا، أو بالأحرى ماكيت لوطنٍ مفروض فرضًا على الجماهير بقوة الإلحاح الإعلامي والتسويق السياسي، بينما السكان الحقيقيون للوطن الحقيقي يئنون من المعاناة تحت وطأة التردّي الاقتصادي والاجتماعي، إلى الحد الذي بات معه أكثر من 95% من الشعب يكافحون من أجل التمتّع بالحد الأدنى من المعيشة الآدمية. بينما على الجانب الآخر، تندلع من شاشات التلفزة الرسمية صور عن تلك الجنة الافتراضية الموعودة في العاصمة الإدارية للجمهورية الجديدة، التي تخاصم الجمهورية الحقيقية تاريخيًا وجغرافيًا، وتقاطع قيمها وأخلاقها لتفرض قيمًا وأخلاقيات أخرى، مثل التي أوجدت نموذج الفن المسروق والسياسة الزائفة والإعلام الفاسد، لتكون محصلة كل هذه المكوّنات وطنية زائفة في وطن مزيف.

يُحارب هذا الوطن المزيف كل ما هو أصلي وأصيل، ليفرض بدلًا منه كل ما هو فاسد وزائف، ففي الاقتصاد والصناعة يبيع الأصول ويقتل الشركات الوطنية المنتجة، ويحارب الرأسمالية الوطنية ليُخلي الساحة لمجموعة من النهابين والقناصين هم أساس هذه الأوليغارشية الجديدة، القائمة على التحالف بين المال الفاسد والحكم الفاسد.

منذ بواكير الانقلاب الذي أوصل هؤلاء "الأوليجارش" إلى السلطة، قلت إن مصر تتحوّل تدريجياً إلى "دولة فوتوشوب"، مجرّد تكوينٍ فوق رمالٍ ناعمة على شاطئ بحرٍ صاخب، مع أول موجةٍ تنهار الأكاذيب والأوهام، ليرفع الستار عن زعامةٍ كرتونيةٍ مصنوعةٍ في ورش إعلام بلغ من العبط عتياً، يحاول أن يعتصر من حكايات السابقيْن، عبد الناصر والسادات، ما يكفي لرسم صورة "جنرال معاصر كبير".

هذا الوطن الكارتوني المبهر يتحدّث عن محاربة الفساد معظم الوقت، بينما هو يمارس هذا الفساد ويدعمه ويرعاه كل الوقت، ويتكلم عن بناء الإنسان الجديد والدولة الجديدة، بينما كل سياساته وإجراءاته على أرض الواقع تقتل في الإنسان روحه وكرامته وقدرته على الابتكار والإبداع، وتدمّر مفهوم الدولة وتفرّط في خرائطها الجغرافية وتجعلها معبرًا آمنًا للأعداء والخصوم.

 في بداياته، كان الجنرال يصيح مزمجرًا في الجمهور الذي يمارس حقه في السخرية من المسخرة القومية الشاملة، قائلًا "ما يصحّش كده". وبعد سنوات، وفيما هو يعلن تدشين مشروع فنانة، اتهمت باللصوصية فيما بعد، كان يهتف "يخرب بيت كده" ضاحكًا بسعادة، وهو يعلن إلى الأمة تكليفها بمسؤولية تغيير الهوية البصرية لأهم مدن مصر التاريخية .. تمامًا كما نفذ هو مشروعًا ضخمًا لتغيير هوية مصر التاريخية والجغرافية والإنسانية.

المصدر: العربي الجديد