وحدة العبودية ، و تكاملها ، في أجزاء هذا الكون، لله تعالى الذي خـلقه : حقيقة يراها المتـفكر ، إذا استطاع أن يفلت من الصخب الملهي و يتأمل في هدوء ورَوية .

منها : عبودية لا تشوبها الوساوس، لبساط الأرض جميعه، حشائشه والباسقات، نبهك القرآن لها ، في قوله عزّ وجلّ : { والنجم و الشجر يسجدان } .

قال الطبري : " يعني بالنجم : ما نَجَم من الأرض من نبت، وبالشجر : ما استـقـل على ساق " 88

فهو منظر سجود دائم يراه المؤمن ليكون له تذكرة حين تثـقله الغفلة، يديم له سجوداً قلبياً، آيته الرضا عن الله، والتسليم لحكم حلاله وحرامه، به يستكمل سجود جبهتـه مغزاه .

ومتى ذاق المؤمن، بالخلوات المسترسلة ، لذة مراقبة هذا السجود الأخضر ، المتوشح بألوان الزهر ، وأذن لقلبه أن يبالغ في الهبوط مقلداً ، حتى يلامس أوطأ الإخبات : نادى غيره للمشاركة، وعرض عليه الرفقة، منخلعاً عن حسد واحتكار .

وتلك هي دعوة إقبال، لما ظفر بسر السياحة الإيمانية الصامتة، في البراري الناطقة، ونبهك إلى إنصات واجب، لتسبيح دائب، و أوصاك أن :

دع الدور واطلب فسيح البراري

و انظر إلى صفحات الجمال

على حافة الماء دون ملال

تأمل ترقق ماء زلال

وحدق إلى نرجس ذي دلال

وقبِّل عيوناً له كاللآلي

و كان عبد الوهاب عزام أول مجيب له، وطفق يستغرق في التأمل، فرآه جاهل بما هنالك فأنكر عليه، فقال :

لست أخلو لغفلة و سكون

وفرار من الورى و ارتياح

إنما خلوتي لفكر و ذكر

فهي زادي وعُدّتي لكفاحي

و ما زاد بهذا على أن جدّد مذهباً سالفاً، و عرفاً عند أول المسلمين، في استلال ساعة من بين حركاتهم في التعلم و التعليم، والأمر و النهي، و ضرورات المعيشة، يميلون فيها إلى التـفرد خارجاً ، والركون إلى أرباض مدنهم ، و الجلوس بين الزروع ، يرجون لأنفسهم بصائر و تذكرة .

وروى ابن القيم أن شيخه ابن تيميه، رحمهما الله ، كان يتركهم غادياً بعد الفجر مراراً ، فراقبه ، فوجده يعتـزل في غوطة دمشق و حقولها ، حتى غدت عنده عادة .

وما ذاك على أسلوب القرآن بغريب ، ولا على رموز النص الشريف المأثور و تشبيهاته، بل هو ارتباط واضح خلالهما بين الخضرة و خصال الفطرة، ترك طابعه على طرائق المؤمنين في التعبير و التمثيل، في نحو على منحاهما، يدلك على قـلوب فقهت المناسبة، واستوعبت الإشارة، وشهدت الرابط الجامع في لقيا الشجر ومعاني الإيمان، إنها غابة من أشجار الإيمان ، فيها أيك ملتف متشابك، تجعل سيرك في ظل وارف، و مداعبة من زكي العبيق .

تفجؤك فيها شجرة التوحيد

وهي شجرة غرسها القرآن، تستـلقي تحت أغصانها حين تـقرأ قول الله تبارك وتعالى :

{ ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تُؤتي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربها ، و يضرِب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون }

قال ابن القيم : " فإنه سبحانه شبّه شجرة التوحيد في القـلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل ، الباسقة الفرع في السماء علواً ، التي لا تـزال تؤتي ثمرتها كل حين . و إذا تأملت هذا التشبيه رأيتـه مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء. ولا تـزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء . ولا تـزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت ، بحسب ثباتها في القلب ، ومحبة القـلب لها ، وإخلاصه فيها ، ومعرفته بحقيقتها ، وقيامه بحقوقها ، ومراعاتها حقّ رعايتها "

و من السلف من قال : إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر في الصحيح ، وقال الربيع بن أنس : ذلك المؤمن ، أصل عمله ثابت في الأرض ، و ذكره في السماء .

قال ابن القيم :

" ولا اختلاف بين القـولين ، و المقصود بالمثل : المؤمن ، و النخلة مشبهة به ، وهو مشبه بها " .

و من مكانك تحتها تشم عبير ورود بقربها ، من شجرة تسمى شجرة الطاعة، شهدت منحة الرضوان، لما أسبغت، يوم نزلت: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحاً قريباً }

و يفتأ المستظل بظلها اليوم ساكن الفؤاد ، غير مضطرب لحرمان وفـوات، ينتظر فتحاً لحركة الإسلام تـندكّ به صروح الضلال ، قد قدّم له التبايع على الموت ثمناً .

فإن اختار الله لك المحنة سبيلاً لهذه المنحة، وحَزَبَك الأمر: لجأت إلى شجرة الترحاب، تطلب الطمأنينة عندها ، هازاً جذعها ، لتغدق عليك من بركتها ، وتـفعل ما فعلت مريم عليها السلام لما ضاقت عليها الأرض ، فجاءها نداء: { و هزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جَنياً فكلي و اشربي و قرّي عينا } .

فتأكل رطيبات وتـقنع بها ، عازفاً عن بطر المترفين ، وتغرف من ثَمّ من سَرِي بين يديك يجري، مستعلياً بعزة دونك مدارجها، ترقى إليها و تَسري .

و للنبي صلى الله عليه وسلم غِراس في هذه الغابة، كما أن الحكمة أشهدت الشجر مواقف من سيرته الشريفة، إيماء إلى هذا الارتباط ، ربما ، و إثارة لتطلع الغافل .

منها : شجرة الوفاء ، عنوان امتـزاج الأرواح الذاكرة ، تـنطق بالشكر ، و تحفظ الفضل لأهله ، و تعلن عِرفان الجميل .

وهي نخلة ، تَنَهَّدتْ عند الفِراق .

قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه :

( كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وُضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العِشار ، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم ، فوضع يده عليه )

أي كأصوات النياق التي أثـقلها حمل بطنها وقَرُب مخاضها . وتـلك من معجزاته ، عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام .

جذع أنيلَ الشرف، فوفى ، واجتمع له الحَنين ، فاستبدَّ به استبداداً ، فَرَّق منه الأنين .

وما من أحد إلا وفي بيته ديوان حديث، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم واقف عنده يُفقِّه أمرَ دينه، و يُلقنه شرائع الأسلام، و الوفاء يليق لمثلنا، نتعلمه من الجذع، و نترجمه صُوراً من الاتّباع و الاقـتـفاء .

و شجرة خامسة تسمى شجرة الثبات، تلوذ بها يوم تتوزع الناس الأهواء ، فتطلب النجاة معتـزلاً الفِرَق كلها ، ( ولو أن تعضّ بأصل شجرة ) .

وتصون لسانك إلا عن قولك مع عبد الله بن أبي مُليكة : " اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نُفتن " فلأمر ما مما نقول كان هذا الاعتصام بالشجر ، في إلحاح يزيد معه المعتصم شدّ نواجذه ضاغطاً ، لو تخيّلته، لتردّد قلبك يهتـز في قلق ، بين رهبة من استرخاء يعتري فيَجرِف ، و أمل في إتمام يُنجي .

إلا أن رحيق هذه الشجرة يرويك إذ الناس تلهث عطشاً ، ويبل حلقك بارداً ، فتضاعف العضّ مُبالغاً ، كأنك تمص الثبات راضعاً .

و سادسة تُعرف بشجرة الأنس، تُصاحبك عند الوحشة، و تخفف رطوبتها جفاف هـفواتـك. غَرَسها النبي صلى الله عليه وسلم لما مَرَّ بقبرين يُعذبان ، فكان أن: ( أخذ جريدة رطبة ، فشقها بنصفين ، ثم غرز في كل قبر واحدة ، فقالوا : يارسول الله : لِمَ صنعت هذا ؟ فقال : لعـله يخفـف عنهما مالم يَيْبسا ) .

ففهم بُريدة الأسلمي – رضي الله عنه – من ذلك أنها سُنة ، فأوصى أن يُجعل في قبره جريدان ، فما زال الناس يُقلدونه في ذلك .

وقد لا نخلوا من لمم يكدر صفـو العمل، أو من تَتَبع بفـضول لما في يد أهل الدنيا من أموال الاستـدراج ، يكون معه الأرق المتـلف، واضطراب النوم، فيضعف الاستعداد للفجر الآتي ، ولعل سويعة لك تحت سعف النخيل تخفف لهـفـك .

ثم شجرة المفاصلة، شهدت كيف يُتمم استـقلال الوسيلة عند المسلم استـقلال الهدف، و ذلك لما تبع مشرك جيش المهاجرين والأنصار حين سيره نحو بدر ، يريد أن يقاتل معهم ، حمية و نصرة لقومه، فلما وصلوا شجرة ضخمة كانت مَعْلماً في الطريق، ذكرتها عائشة رضي الله عنها: لحق بهم ، فالتـفـت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( ارجع ، فلن أستعين بمشرك ) .

فمضى ذلك أصلاً ، لم يطرأ عليه الاستـثـناء إلا في حوادث ضيقة .

و تحاصر جبهات الأحزاب اليوم دعوة الحق، تبثّ إرجافها، متهمة إياها بتخلف عن ركب سياسي مجتمع، فيقصد الدعاة الأشجار المعالم الضخام ، فتشهد بانتفاء اللقاء ، و عيب النزول بعد الاستعلاء .

ولما فَقه الناس هذه الأمثال: تتابعوا في سباق يغرسون، فكانت شجرة ثامنة عرفت بينهم أنها شجرة الاغتفار .

وهي شجرة عنب كثيرة الثمر ، فكان غارسها إذا مَرَّ به صديق له : اقتطف عنقـوداً ودعاه ، فيأكله ، وينصرف شاكراً .

فلما كان اليوم العاشر : قالت امرأة صاحب الشجرة لزوجها : ماهذا من أدب الضيافة ، ولكن أرى إن دعوت أخاك ، فأكل النصف ، مددت يدك معه مشاركاً ، إيناساً له ، وتبسطاً      وإكراماً .

فقال : لأفعلن ذلك غذاً .

فلما كان الغد، و انتصف الضيف في أكله : مدّ الرجل يده و تـناول حَبّة ، فوجدها حامضة لا تساغ ، وتـفلها ، و قطّب حاجبية ، و أبدى عَجَبه من صبر ضيفه على أكل أمثالها .

فقال الضيف: قد أكلت من يدك ، من قَبلُ على مر الأيام حُلواً كثيراً ، و لم أحب أن أريك من نفسي كراهة لهذا تشوب في نفسك عطاءك السالف .

و ما هذه من قصص الأغاليط ، ولكنه مَثـَل ضرب لك أيها الأخ الداعية فاستمع له ، ومجاز تدلف منه إلى العدل مفتوح أمامك .

فليس فيمن حولك من انبغت له العصمة و استـقام له الصواب، فإن أخطأ معك أخ لك فلا تجرمنـَّك كبوته على الهجران،  والتأفف، و الضجر والانتقاص منه، بل ولا على العتاب , إنما تـتصبر ، و تكظم و تعفو في سرك مستحضراً جمال سابقاته ، و جياد أفعاله ، و حلو مكرماته ، إذ لعله قد أعانك على توبة أو ظاهرك عند تعلمك رديفاً و رفيقاً و سميراً ، أو علّمك باباً مما علّمه الله و طريفه .

فإن استـفدت و نشرت الانصاف، فقد أذن لك في أن تستـلقي تحت شجرة هيفاء، كثيرة الثمار و الورود، يخلب نظر الرائي جمالها، وتُنطق المستمتع حمداً لرفيع ذوق غارسها .

اسمها : شجرة الزهد .

وهي شجرة قلبية فريدة، ولم يَسبق صاحبها أحد إلى استـنبات مِثلها ، فجاءت بدعة، ووصفها فقال :

غَرسَ الزهدُ بقلبي شجره

بعد أن نقّى بجهدٍ حَجَرَه

وسَقاها إثرَ ما أَودَعها

كَبِدَ الأرضِ بدمعٍ فَجَّرّه

ومتى أبصرَ طيراً مُفسداً

حائماً حول حِماها زَجَرَه

نمتُ في ظلٍ ظليلٍ تحتَها

رَوّح القلبُ و نَحى ضَجَره

تم بايعت إلهي وكذا

بيعة الرضوان تحت الشجرة

فانظروا أطوار رعايته لها، وعنايته بها، وكيف بدأ بتطهير قلبه مما هنالك من أحجار الحسد و الرياء و التكبر و سوء الظن ، و كيف سقاها بدموع الخشية في الأثلاث الأخيرة ، وكيف زجر شياطين الإنس و الجن لما حامت حول بذرتها تبغي التـقاطها ، وقلِّده ، و أفعل فعله : تورق لك أختها ، و تتفتّح لك منها الزهور بألوان و عطور ، فتـنام تحتها كما نام ، تستشعر شعور أهل بيعة الرضوان ، و كأنك فيهم و معهم ، تغمرك نشوة البيعة على الموت في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام .

ووعى الإمام حسن البنا – رحمه الله – فَن زراعة أشجار الإيمان، فغرس لك الشجرة العاشرة، وهي شجرة الحِلم ، و صفها مخاطباً الدعاة فقال : " كونوا كالشجر، يرميه الناس بالحجر ، و يرميهم بالثمر " . ولقد أجاد وأفاد ، فإن في أكثر الناس سرعةَ جنوحِِ إلى الجهل ، يميلهم إلى تكذيب دعاة الإسلام و إيذائهم بالباطل . ولو جهل الداعية مثـل جهل الجاهلين ، وقابل الإساءة بإساءة، لعـفـت رسوم الإحسان واندثرت، و لكنه الصدر الواسع ، والاحتساب ، والاستغفار لقومه الذين لا يعلمون .

أما بعد :

فليس الإمام البنا بآخر غارس في غابة الإيمان، و إنما وضعنا في يدك الفأس، و أعطيناك البذر ، فأبذر : تجد الثمر و فيراً ، مباركاً .

فاخرج و تجوّل متأملاً : تجد أخلاق الإيمان قد مازجت الخضرة، و إن لكل شجرة تعبيراً عن شيء من محاسن الخصال يمازج سجودها، و يقترن بمظهر عبوديتها لله خالقها .

ومن ها هنا كانت سويعات الخلوة بين الشجر سبب ذكرى للغافلين، وسبيل إنابة .

و مما ينبيك عن صدق ظننا الحَسَن هذا بالأشجار أن الله سبحانه ضرب مثل الكلمة الخبيثة المنافية للتوحيد كشجرة خبيثة، لكنها ليست قائمة، بل اجتُثتْ من فوق الأرض ما لها من قرار .

فليس من شجر واقف إلا و يعظك بكلمة من الإيمان .

من كتاب "الرقائق" للأستاذ محمد أحمد الراشد.