د. سيرين الصعيدي

الإنسان العاقل هو الذي يدرك ويعي الغاية من وجوده، ومن منة الله وفضله علينا أن هدانا لهذه الغاية وهذا المقصد ولم يتركنا نتخبط بقصور إدراكنا باحثين يمينا ويسارا عن المقصد من وجودنا.

وتتوالى نعم الله علينا ومنته وفضله بأن جعل السبل إليه جل شأنه والتقرب لعزته وجلاله سبلاً متعددة، فلم يحصرها في نوع واحد من العبادات والقربات، وهذا أدعى لتجديد الهمة في النفس والعزم في القلب وللخروج من الروتين التي عادة ما يكون سببا في فتور أحدنا.

عبادة الله غاية وجودنا، ورضا الله تعالى أسمى أمانينا، والتقرب إلى الله همنا ومدار سعينا في هذه الحياة، وهل عزاؤنا في الصبر على المكاره وتحملنا لآلام المسير، وشكرنا على النعم وحسن خلافتنا على هذه الأرض إلا رضا الله وملاقاة وجهه الكريم على أفضل حال يرضيه عنا؟! وإلا ما فائدة الصبر على السراء والضراء وحسن استقبالهما بغير رضا الله وابتغاء وجهه الكريم، فلا عجب أن تجد المرء منا يخوض الصعاب ويحتمل كل ألوان الآلام من مرض وفقد وفقر ونصب عيش وما إلى ذلك من صور الابتلاء والاجتهاد في العبادات من إسباغ الوضوء على المكاره والصبر على شهوتي البطن والفرج وسلوك مسالك العلم ومشاركة الأيتام والمساكين وغيرهم بالمال والإحسان للرحم وإن أساؤوا ولقاء العدو وكل ما يخطر ببالك من عبادات متعددة بين الفرض والنافلة والباعث على ذلك والغاية منه الفوز برضوان الله.

والمتأمل في الفترة الماضية وما تخللها من كروب واشتداد الأزمات وتغير أحوال الناس وتقلب ظروف البلاد والعباد يدرك حجم الهموم التي تثقل كواهل العباد وتغرس الأحزان في نفوسهم كما الفسائل ترسخ في قلوبهم وتنمو على دموع آلامهم وآهات توجعاتهم، ولو تأملت أيضا لوجدت أن الكثير منهم قد يلملم جراحه ويجمع شتات نفسه بكلمة صادقة تواسيه فيها أو بكف رحيمة تمسح على جراحهم وترقأ بها دموعهم.

عبادة ما أكثر من يغفل عنها منا؛ تنفيس الكروب ينبهنا لها الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" (رواه مسلم)، وفي رواية: "ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة" (رواه البخاري).

ما أسهلها من عبادة وما أجزل جزاءها، من منا يعجز عن ذلك ولو بكلمة لا تدري كم من البركة سيطرح الله بها وأنت تواسي قلبا مكلوما أو صاحب هم مهموما وانظر لعظم الجزاء، إذ يعلق ابن رجب على هذا الحديث بقوله: "الكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها، مأخوذ من تنفس الخناق كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نفسًا، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج" (جامع العلوم والحكم).

ومن منا لا ترتعد أوصاله من فزع يوم القيامة وأهوالها وكربها ومن منا من لا يحمل هم ذلك اليوم أو يأمن على نفسه منه ليستطيع أن يزهد بمثل هذا الأجر فإن عجزت عن تفريج كربة أحدهم فأقلها لا تتوانى في تنفيسها.

فكم من الأعمال نقدم عليها رغم صعوبتها نبتغي بها الأجر والمثوبة والرضوان فتجد الكاتب يسهر ليله الطويل منافحا عن الحق داعيا له، أو المجاهد الذي جاد بنفسه أو ماله، والصوّام الذي انقطع عن شهوة بطنه وفرجه، أو القوّام الذي هجر فراشه قائما بين يدي ربه والناس نيام، فكيف نغفل عن هذه العبادة وقد لا يكلف بعض ألوانها غير كبسة زر لترسل رسالة أو تجري مكالمة تخفف فيها عن محزون أو تواسي مريضا فكيف إذا كانت بسد جوع أحدهم أو كسوة عارٍ أو دراهم معدودة لمعدوم وما أكثر سبل هذه العبادة وتعدد أنواعها لمن صدق النية وعزم على الخير.

بل انظر وتأمل لقول الحبيب المصطفى: "لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" (رواه مسم)، حتى تدرك صواب ما سبق وأنه ليس ضربا من خيال وحتى لا تصور لك نفسك أن تفريج الكربات يكون بعظم الجبال وأوزانها وإن كان أجرها كذلك، ولكن أسبابها سهلة يسيرة لمن يسرها الله عليه، فما أكثر سبل المعروف وألوانه إن صدقت العزم وصححت النية، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ولو أن تدخل السرور على قلب مثقل ولو أن تتقاسم طعامك ولو بشق تمرة فلا تنظر لحجم العمل بل تأمل أثره في نفس من وقع عليه، و انظر لبريق الأمل في عينيه وهو يرفع كفي الضراعة لله أن اللهم فرج عن فلان كما فرج عني كربتي.

لا تحقرن من المعروف شيئا ولا تستهن بأي عمل مهما صغر ولو أن تكون كوة يتسلل منها الجبر لخاطر مكسور أو ينفذ منها النور لمن أظلمت بهم دروب الحياة، فما عليك إلا أن تلقي بذورك والله يتولى أمر نمائها وحصادها وهو الموفق والمسبب.

المصدر: بصائر