د. يوسف القرضاوي

 إذا كان العلم مطلوبًا للقضاء والفتوى، فهو مطلوب كذلك للدعوة والتربية. فقد قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108).

فكل داع إلى الله -من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم- يجب أن تكون دعوته على بصيرة، ومعنى هذا: أن يكون على بينة من دعوته، ومعرفة مستبصرة بما يدعو إليه. فيعلم: إلام يدعو؟ ومن يدعو؟ وكيف يدعو؟

ولهذا قالوا عن الرباني: هو الذي يعلم ويعمل ويعلم. وإليه يشير قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79)، وفسر ابن عباس الربانيين فقال: حكماء فقهاء (1).

ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

قالوا: والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وبكباره: ما دق منها.

وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل نتائجه (2).

والمقصود هو: التدرج في التعليم، ومراعاة ظروف المتعلمين، وقدراتهم، والترقي بهم من درجة إلى أخرى.

ومما يوجبه العلم في مقام الدعوة والتعليم: أن يأخذ الداعية والمعلم الناس بالتيسير لا التعسير، وبالتبشير لا التنفير. كما في الحديث المتفق عليه: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»(3).

قال الحافظ في شرح الحديث: المراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء. وكذلك الزجر عن المعاصي، ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا، حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا الازدياد، بخلاف ضده (4).

وليس التيسير مقصورًا على قريب العهد بالإسلام، كما قد يفهم من كلام الحافظ، بل هو أمر عام ودائم، ولكنه ألزم ما يكون لحديث العهد بالإسلام أو بالتوبة، أو بكل من يحتاج إلى التخفيف من مريض أو كبير سن أو ذي حاجة.

ومن مقتضيات العلم: أن يجرعوا من المعارف الدينية ما يطيقونه، وتسيغه معدتهم العقلية، ولا يحدثوا بما تنكره عقولهم، فيكون ذلك فتنة عليهم أو على بعضهم.

وفي هذا يقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون: أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! (5).

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة (6).

.....

- المصدر: «في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة» لفضيلة الشيخ.

(1) ذكره البخاري معلقًا في كتاب العلم من «صحيحه». وقال الحافظ في «الفتح»: وصله ابن أبي عاصم بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن (1/161).

(2) «الفتح» (1/162).

(3) رواه الشيخان عن أنس، كما في «اللؤلؤ والمرجان» (1131).

(4) «الفتح» (1/163).

(5) رواه البخاري في «كتاب العلم» موقوفًا على علي رضي الله عنه. انظر «الفتح» (1/225).

(6) رواه مسلم في مقدمة «الصحيح» موقوفًا علي ابن مسعود - المصدر السابق.