كشف الصحفي ديفيد هيرست في مقال له عن الكيان الذي سيستهدفه الرئيس التونسي قيس سعيد، في الفترة القادمة، بعد تخطي مرحلة الاستفتاء على الدستور الجديد.

واعتبر هيرست في المقال الذي نشرته "ميدل إيست آي" أن الساحة باتت مهيأة لصدام عظيم بين "سلطان تونس الجديد" والنقابات المهنية، التي تمثل ثقلا شعبيا هاما منظما بعد حركة النهضة.

وقال: "لا يمكن أن يختلف اثنان على أن استيلاء قيس سعيد على السلطة في تونس قبل عام، كان انقلاباً، وأن الوثيقة التي نشرها موقع "ميدل إيست آي" قبل شهرين اثنين من تحرك قيس سعيد كانت خطة حقيقية قام بتنفيذها بالفعل، لتندفع بذلك تونس نحو الديكتاتورية".

 وأكد أنه لا يمكن للسياسيين الذين دعموا قيس سعيد قبل عام، وما لبث أن دمرهم، أو النقابات التي ساندته، أو التونسيين المعدمين، أن يجادلوا في هذا الأمر، فلقد تراجعت شعبيته من 80 في المائة إلى 22.3 في المائة.

 موضحا أنه لا يوجد خلاف على ذلك حتى بين الشباب الذين كانوا في العام الماضي، مقتنعين بإجراءات قيس سعيّد.

 وأشار إلى تزايد المعارضة لمساعي سعيد بجمع كل سلطات الدولة في قبضته دون رقيب ولا حسيب، حيث تجاوزت المستهدف الأساسي، حركة النهضة الإسلامية، وهي الحركة السياسية الأكبر في البلاد.

 وأضاف أنه بعد عام واحد على انقلابه، فها هو قيس سعيد يتخذ خطوات بارزة لترسيخ سلطته من خلال فرض دستور يحطم كل الضوابط والموازين التي من شأنها أن تقيد حكمه بقوة المراسيم، حيث تشير نتائج استفتاء يوم الإثنين، بحسب أرقام أولية لهيئة الانتخابات، إلى مشاركة منخفضة لا تتجاوز الـ 27.5 في المائة.

 خطوات بارزة

 ورأى أن قيس سعيد هو المؤلف الوحيد للدستور الذي طرحه للتصويت، وقد كان معه مؤلفون آخرون، ولكنه ما لبث أن اقتحم المشهد فارضاً النص الذي وضعه بنفسه، وهو النص الذي رفضه صادق بلعيد، رئيس اللجنة الاستشارية التي عينها سعيّد بنفسه لتضع مسودة الدستور الجديد.

 وكشف بلعيد الذي كان واحداً من أقرب المقربين له، عن أن قيس سعيّد أحدث تغييرات جوهرية في النسخة التي قدمتها له اللجنة.

 ويلغي الدستور الجديد، دستور تونس لعام 2014، الذي استغرق إعداده عامين ونجم عن استشارات مكثفة محلياً ووطنياً، كما أن الدستور الجديد يركز كل الصلاحيات في يدي الرئاسة ويمنحها الهيمنة التامة على البرلمان والقضاء والسلطة التنفيذية، مدمراً بذلك مبدأ الفصل بين السلطات، الذي يعتبر أساسياً في أي ديمقراطية أخرى.

 وفي سبيل إقرار الدستور الجديد، لم يجد قيس سعيد مفراً من إقالة هيئة الانتخابات التونسية، التي كانت قد أبلت بلاء حسناً في سبعة انتخابات سابقة، مستبدلاً بها أشخاصا ينفذون له كل ما يريد.

وحتى آخر لحظة ظل قيس سعيد ينتهك القواعد التي وضعها هو بنفسه، تماماً كما كان يفعل رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون.

واتهم قيس سعيد بانتهاك قانون الانتخابات من خلال بث فيديو عبر أحد القنوات الرسمية في نفس يوم الاقتراع.

إلى ذلك فقد قاطعت جميع الأحزاب ما عدا حزبا واحدا، الاستفتاء، بينما لم يكن هناك مراقبون للعملية الانتخابية.

ولذلك فإن نتيجة ذلك العبث لا قيمة لها، فما من شك في أن قيس سعيد سوف يتصنع الاستغراب من النتيجة، لكن هذا سيكون بمثابة الارتداد إلى أسوأ أعوام حقبة ما بعد الدكتاتورية الاستعمارية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ولا يأبه قيس سعيد، رغم أنه متخصص في القانون الدستوري، بالتفاصيل، فكل ما يهمه هو أن تكون السلطة المطلقة في يده، إذ يعتبر نفسه سلطاناً، ورجلاً بإمكانه أن يرى ما هو أبعد من احتياجات الحاضر، وحاكماً نصبه الله بنفسه.

ولكم تكرر مثل هذا النموذج في الماضي، ولا مفر من أن يفضي ذلك إلى نتائج وخيمة.

لا تصريحَ مجانيًا

ويقف على خط المواجهة في مقاومة الدكتاتورية قضاة تونس الشجعان.

ولئن كان ذلك أمراً مفاجئاً فإنه يمثل تقدماً من نوع ما، فلم يكن كذلك الحال في عهد الحبيب بورقيبة ولا في عهد زين العابدين بن علي، حيث كانت المحاكم خاضعة تماماً لذراع الرئاسة، إلا أن زملاء قيس سعيد السابقين في المهنة القانونية لا يجارونه فيما يفعل.

ولكن ليس كلهم هكذا، فبعضهم لديهم الاستعداد للقبول بما كان يطلق عليه في العهد السوفياتي "العدالة بالهاتف"، حينما كانت الأحكام القضائية ترد إلى القضاة من خلال مكالمات هاتفية عبر الأيادي غير المرئية للحزب.

ونظم اتحاد القضاة إضراباً استمر لشهر كامل للاحتجاج على إقالة 57 من أعضائه اتهمهم قيس سعيد بالفساد وبحماية الإرهاب، إلا أن مواصفاته لأي شخص يحمي الإرهابيين مواصفات فضفاضة جداً، فهي تشمل كل قاض يعصي أمره.

ويتم حالياً إعداد قائمة جديدة بأسماء القضاة العصاة، أو القضاة الذين يصرون على الاحتفاظ باستقلالهم، وسوف تشتمل القائمة على اسم القاضي الذي أبطل تهمة غسيل الأموال بحق راشد الغنوشي، الرئيس السابق للبرلمان ورئيس حزب النهضة.

واتهم راشد الغنوشي بتلقى مالاً من حكومة أجنبية وغسله عبر منظمة أخرى تلعب دور الواجهة تعود إلى صحفي بريطاني، كانت له شهرة واسعة في الشرق الأوسط، حيث كانت تقاريره يكتنفها من الخلل قدر ما يميزها من صدق.

إنه الراحل روبرت فيسك الذي نشر تقريراً زعم فيه أن راشد الغنوشي تلقى كميات ضخمة من المال من أمير قطر عشية الانتخابات، حيث كان مصدر المعلومة التي نقلها فيسك هو وزير الخارجية السوري وليد المعلم، الذي كان في طابور من وقفوا على باب الأمير في قطر ينتظرون اللقاء به.

ورفعت حركة النهضة قضية ضد الصحيفة وكسبتها واضطرت الإندبندنت إلى دفع تعويض ونشر اعتذار يبعث على الغثيان، جاء فيه: "نود أن نوضح بجلاء أن السيد الغنوشي وحزبه لم يتلقيا أي تبرع من أي دولة أجنبية، الأمر الذي كان سينتهك قانون تمويل الأحزاب التونسية. ولذا فإننا نعتذر للسيد الغنوشي".

كما تمت مقاضاة صحف عربية أخرى نشرت المزاعم، حيث أدينت هذه الصحف، لكنها راوغت وتهربت من دفع المخالفات، حتى أن واحدة منها لجأت إلى إعادة تشكيل شركتها في لندن.

والأسبوع الماضي، لم يقبل القاضي الذي ترأس التحقيق في القضية شيئاً من ذلك، فقد كان الادعاء قد زعم بأن الغنوشي تربطه علاقات بجمعية نماء التونسية، والتي اتهمت بغسيل الأموال.

ورفض القاضي طلب الادعاء توقيف الغنوشي بينما لا يزال خاضعاً للتحقيق، وبعد جلسة استمرت تسع ساعات، أمر القاضي بالإفراج عن الغنوشي، مع أن التحقيق معه استمر حول مزاعم أخرى.

وكانت هناك أمور مزعجة أخرى في هذه القضية، ومنها أن الجلسة عقدت في محكمة مختصة بمكافحة الإرهاب بدلاً من محكمة مختصة بالمخالفات المالية، فحتى فيما لو ثبتت التهمة، فإنه لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالإرهاب.

فيما لو نجح الادعاء هذه المرة، لكان من اليسير إقناع التونسيين بالقصة، ألا وهي أنه: "لا علاقة لي إطلاقاً بنقص المواد الغذائية الأساسية، فثمة مؤامرة تحاك في البلاد لإحداث النقص في المواد، وتلك القوى السوداء تتآمر على الطيبين من أمثالكم وأمثالي."

تلك هي الطريقة التي يفكر بها قيس سعيد ويتحدث بها إلى الناس الذين انتخبوه.

إنه موسوس، كذاب أشر، بل ومجرم إذا ما أخذنا بالاعتبار جسامة الفقر والبطالة في البلاد.

ومن تنطلي عليهم من التونسيين أكاذيبه تتناقص أعدادهم يوماً بعد يوم.

الهدف القادم

تزداد النهضة قوة، وها هم أعضاؤها يعودون إليها من جديد، والغنوشي نفسه على استعداد لأن يفعل ما سوف يعتبر بالنسبة له جولة ثالثة من السجن، فقد سجن في عهد الرئيس بورقيبة ثم في عهد الرئيس بن علي.

وسوف يكون سجن الغنوشي بمثابة رسالة إلى جميع الأحزاب السياسية بأنه لا يوجد مجال للتعددية السياسية، إلا أن المقربين من الغنوشي يقولون إن سجنه سوف يعزز النهضة ولن يقضي عليها.

كما لن تفلت جبهة الخلاص الوطني التي شكلها الإسلاميون بالتعاون مع تسعة أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، وزعيمها، نجيب الشابي، رغم أنه ليس إسلامياً، لكنه يملك التمييز بين الاختلافات السياسية والديمقراطية نفسها.

والآن، بعد زعيم حركة النهضة يأتي الدور على النقابات المهنية.

ومع إيراد قومي إجمالي وصل إلى 45 مليار دولار في عام 2021 ونقص في السلع الأساسية يقدر بما يقرب من 36 مليار دينار (12 مليار دولار)، لا مفر من أن تتعرض الاحتياطات المالية قريباً لضربة شديدة.

وترشح بعض الأموال الواردة من الخليج ومن الاتحاد الأوروبي، إلا أن أمل قيس سعيد الوحيد هو في التوصل إلى صفقة مع صندوق النقد الدولي، وهي صفقة من المؤكد أنها تتطلب ثمناً مرتفعاً مقابل الإنقاذ، كما حصل في مصر.

وسوف يشترط صندوق النقد الدولي رفعاً للدعم عن السلع وتقليص حجم العاملين في القطاع العام.

وحتى الآن، مر نور الدين الطبوبي، أمين عام اتحاد الشغل، بصدام واحد داخل المحاكم إزاء محاولات إثبات عدم قانونية فترته الثالثة، ومر بمحاولة واحدة للإضراب.

وفيما يتعلق بالاستفتاء، حرص اتحاد الشغل على التزام خط وسط بين التنديد بالدستور والسماح لأعضائه بالتصويت كل بما يمليه عليه ضميره.

ولسوف يستحيل معرفة كم عدد التونسيين الذين استجابوا لنداءات المقاطعة وكم عدد من اتخذوا مكاناً قصياً عن مراكز الاقتراع.

وباتت الساحة جاهزة لنشوب صدام بين سلطان تونس الجديد والنقابات المهنية، والتي غدت بعد النهضة الحركة الجماهيرية الوحيدة المنظمة.

ولن يتوقع ديمقراطيو تونس، الذين يتعرضون لضغوط شديدة، أن تصدر بحقهم كلمة مساندة من قبل من نصبوا أنفسهم حماة للديمقراطية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذين عبروا عن قلقهم الشديد مما يفعله قيس سعيد، ولكنهم تجنبوا وصفه بالانقلاب.

 لقد انتهجوا نفس الأسلوب الذي اتبعوه مع مصر، وهو ما كانوا سيفعلونه مع تركيا فيما لو نجح الانقلاب فيها.

وها هي تونس تثبت، تارة أخرى، بالنموذج العملي مدى انعدام كفاءة جيرانها الأوروبيين، الذين يرغبون فعلاً بسحق الربيع العربي، الذي يمثل ديمقراطيو تونس آخر أغصانه الذابلة.