ليست الرجولة أن يمتلك المرء الشجاعة الوقتية والبطولة الشكلية؛ ولما يَجِدُّ الجدّ ويتطلب الأمر الجلد والصبر لا يتحمل متاعب الطريق ولا يمتلك القدرة على تحمل مشاقه.

وإنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والعمل الدائب والحكمة وتقدير التبعة؛ ومما هو ثابت أن معادن الرجال تظهر في أوقات الأزمات وفي أتون المحن.

أما الفورات اللحظية والحماسات الوقتية التي لا تُلازمها قوة نفسية عظيمة وحالة قلبية قويمة؛ سرعان ما تنتهي وتتلاشى مع أول هزة.وهنا تظهر آثار التربية الصحيحة الهادئة المتدرجة التي تترك في النفس آثارها؛ وتعمق في الوجدان معانيها؛ فتستجيب الجوارح لذلك فينضبط السلوك الدعوي وتستمر الحركة وإن بدت بطيئة. 

والعبرة ليس في (متى بلوغ الشوط؟)، ولكن في (مدى الثبات على الحق).وتجارب التاريخ تقول أن هناك من ثبتوا أمام المحن وصبروا على لأواء الطريق رغم تعاقب السنين عليهم وهم في الأذى؛ لكنهم احتسبوا ذلك قربة إلى ربهم؛ وضريبة قدموها لدعوتهم؛ فكانت العاقبة أن وفقهم الله وأعانهم، فزالت المحنة وهم لا زالوا على الطريق أوفياء عاملين. إنها الرجولة الحقة.التربية الصحيحة وبناء الرجال

عندما تتحقق التربية ويتميز التكوين ويتركز البناء؛ تصح الرجولة ويكون لدى الفرد من القوة النفسية والإرادة القوية ما تجعله أساس النجاح الدافع، والتغيير النافع، والاصلاح الواسع، الواسع في حجمه ومداه، العميق في أثره ومغزاه، لأن الرجال الأسوياء الأقوياء هم سر نجاح الأمم وأساس نهضة الشعوب.يقول الإمام حسن البنا – رحمه الله -: «إن الرجل سر حياة الأمم، ومصدر نهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تُقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإنى أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إذا صحت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء.»(1) الدعوة تحتاج الرجال

نعم تحتاج الدعوة إلى الرجال الأوفياء الذين يتحملون الأعباء والتبعات، ويصبرون أمام المحن والابتلاءات، ويثبتون عند الفتن والانحرافات.

يذكر الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – فى أحد مقالاته: «أن الحكمة والرؤية وطول النفس من سمات الرجولة، والتسرع والاندفاع وقصر النفس من سمات الطفولة وعدم الاكتمال. وطريق الدعوة أحوج ما يكون إلى رجال مؤمنين يقدرون التبعة ويُعالجون المواقف بحكمة، ويتحملون ويثبتون ولا يتغيرون ويتبدلون مع الأحداث، وصدق الله العظيم. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23.»(2) ولقد حدد الإمام حسن البنا سمات الرجولة التى تتطلبها الدعوة، وبين خطورة الحماسة والعجلة؛ الحماسة الجوفاء التى لا تقدر النتائج والتبعات ولا تحسب العواقب والمآلات، والعجلة التى تختصر المسافات وتختزل الأوقات، ولا ترعي استكمال الشروط أو تحقق الصفات، فيقول رحمه الله:

«إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجرُ المحسنين إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة.»(3)رجال لا يخشون أحدًا إلا الله

الرجولة الحقة أن تحيا على طرق الدعوة عاملًا باذلًا وقلبك معلق بربك ومولاك، لا تخشى غيره ولا ترهب سواه، وهذا هو دأب الرجال الصالحين، يعيشون بنفوس زكية وقلوب نقية، قلوبهم مُعلقة بربها والدار الآخرة، لذلك تراهم في الدنيا مُطمئنين، وبين الناس مقبولين، ومن فتن الدنيا ناجين. تراهم أصحاب حال مع ربهم، وأثر في أقوامهم، يُقدمون دعوة الحال على دعوة المقال؛ لذلك لانت لهم قلوب العباد ودانت لهم البلاد، واستطاعوا أن يفتحوا قلوبها قبل أبوابها.واقرأ كيف عبر الإمام البنا عن هذا المعنى في الرجولة من خشية الرب والقوة في الحق، حيث قال: «والإخوان المسلمون يا رفعة الباشا لا يقادون برغبة ولا برهبة، ولا يخشون أحدًا إلا الله، ولا يغريهم جاه ولا منصب، ولا يطمعون في منفعة ولا مال، ولا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض هذه الحياة الفانية، ولكنهم يبتغون رضوان الله ويرجون ثواب الآخرة، ويتمثلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالي: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50).»(4)رجال لا يبخلون على دعوتهم 

والرجولة الحقة ليست شعارات جوفاء وخطب عصماء، ولكنها بذل وعطاء وتضحية وفداء، وهي كذلك مواقف عملية وممارسات حيّة، لا هتافات شكلية وانفعالات وقتية.

ولندقق النظر فيما كتب الإمام البنا عن بعض جوانب هذه الرجولة، وحال الدعاة مع دعوتهم، ورجولتهم في تقديم كل غالٍ وثمين من أجلها، فيقول: «ألا فليعلم هؤلاء، وليُعلِموا غيرهم أن الإخوان المسلمين لا يبخلون على دعوتهم يومًا من الأيام بقوت أولادهم وعصارة دمائهم وثمن ضرورياتهم، فضلًا عن كمالياتهم والفائض من نفقاتهم، وأنهم يوم حملوا هذا العبء عرفوا جيدًا أنها دعوة لا ترضى بأقل من الدم والمال، فخرجوا من ذلك كله لله، وفقهوا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111)، فقبلوا البيع وقدموا البضاعة عن رضًا وطيب نفس، معتقدين أن الفضل كله لله، فاستغنوا بما في أيديهم عما فى أيدى الناس.»(5)الرجولة الحقة في صفاتها

نعم.. الأمر ليس بالكثرة ولكن بتحقق صفات الرجولة من الإيمان والصبر، وإن قل العدد، والقرآن الكريم يربينا على ذلك، فنقرأ في محكم آياته: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)) البقرة. ونقرأ أيضًا: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)) التوبة.وفي التاريخ شواهد ودلائل تبين قيمة الرجال في ميزان الإسلام، ومن ذلك مثالًا لا حصرًا

– حين أمدَّ الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) القائد عمرو بن العاص (رضي الله عنه) حين كان يفتح مصر بأربعة رجال، وعدَّهم عليه أربعة آلاف، وقال له: «سرت بأربعة آلاف، وأمددتك بأربعة آلاف، وهذه أربعة ألاف أخرى، (يقصد الرجال الأربعة) ولا يُغلب إثنا عشر ألفًا من قلة».

– وهذا القائد خالد بن الوليد (رضي الله عنه) في أحد وقائعه سمع رجلًا من الجيش يقول: ما أكثر العدو وما أقلنا؟ فغضب سيدنا خالد وقال: «ويحك، إنما يكثر الرجال ويقلون بالإيمان والصبر».وختامًا: إن معادن الرجال تظهر في أوقات الأزمات، وفي أتون المحن والابتلاءات، وفي ميادين العطاء والأداءات. لذلك قال الإمام حسن البنا -رحمه الله-: «إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب». وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين————-

(1) رسالة: هل نحن قوم عمليون؟ للإمام البنا.

(2) من مقال: (النفس الطويل) للأستاذ مصطفي مشهور، نُشر بمجلة الدعوة – ديسمبر 1980م.

(3) رسالة المؤتمر الخامس، للإمام حسن البنا، 1357 هـ – 1939م.

(4) رسالة المؤتمر السادس، للإمام حسن البنا، 11 ذو الحجة 1359 – 9 يناير 1941م

(5) رسالة المؤتمر الخامس.