"الشريعة والحياة".. "الإيمان والحياة"؛ الأول: عنوانٌ لبرنامج بالجزيرة، ظَلَّ هو على مدى سنوات كثيرة ضيفَهُ الدائم، والثاني: اسمٌ لكتابٍ كُنْت ُولازلت أَعُدُّهُ من أهم المؤلفات التي أبدعها قلمُهُ السَّيَّال، إنّه الشيخ القرضاوي الذي شَغَلَتْهُ الحياةُ الإنسانية، واستغرقَتْ حياتَهُ كلَّها وجهدَهُ كلَّهُ قضيةٌ واحدةٌ ترجع إليها كل القضايا التي عالَجَها بلسانه أو تَنَاولها بِبَنانه، هذه القضية هي: كيف نَنْزِلُ بالإيمان وبالشريعة وبقيم الإسلام ومبادئه إلى الحياة؟ وكيف نَصُول ونجول بحقائق ديننا وأحكامه في كافّة الميادين الغاصّة بالمتناقضات والتحولات والصراعات الفكرية والحضارية؟ فهل تجذرت هذه الطبيعة في شخصيته العلمية لكونه عالِمًا نشأ في أحضان حركة إصلاحية؟ أم لأنّه اهتدى للمداخل العامّة والأصول الكلية التي يتميز بها ديننا والتي تؤهل الخطاب الشرعيّ للتفاعل الإيجابيّ مع الحياة الإنسانية؟ أم للسببين معًا؟

الكتب تعكس شخصية الكاتب

في شبابنا الباكر قرأنا “الإيمان والحياة” فَبَدَتْ لنا فيه ملامح شخصية القرضاوي، إنّه لا يتحدث عن الإيمان من برج التنظير الكلاميّ الشَّاهق، ولا يتناوله بمعزل عن الواقع الإنسانيّ الذي يموج ويضطرب على هذه الأرض، وإنّما ينزل بحقائقه العَلِيَّة إلى الحياة الإنسانية، ويتحدى به كل ما يموج فيها من تيارات واتجاهات ومذاهب ومشارب، حتى إنّك لتخرج من الكتاب بحصيلتين لا تستطيع أن تميز أيتهما كانت مقدمة للأخرى وأيتهما جاءت نتيجة على الأخرى، الأولى: أنّ الإنسانية لا غنى لها عن الإيمان، حتى ولو على النحو البراجماتيّ، والثانية: أنّ افتقار الحياة الإنسانية للإيمان وحاجتها له برهان على صدقه وعلى أنّه الحق الكبير؛ فتشعر بارتياح نفسيّ عميق، مصدره الانسجام التام بين حياة الناس والإسلام، وعدم الفصام بين النظرية والتطبيق، ولا بين القيمة وأثرها في واقع الحياة.

فلما توجهنا إلى ميدان الفقه العمليّ وقعنا على كتاب الزكاة، فتجسدت لنا الشخصية بشكل أوضح؛ فَلَئِنْ كانت حقائقُ الإيمان نظريةً ويحتاج ربطها بالواقع إلى جهد كبير، فإنّ أحكامَ الشريعة عمليةٌ حيوية متحركة؛ ففيم التحوصل داخل المطولات بمتونها وشروحها وحواشيها، فَلْنَنْزِلْ بهذه الأحكام إلى ميادين الحياة وآفاقها الرحبة؛ وكان كتاب الزكاة أنموذجا فذًّا لعلاج قضايا الواقع بأحكام الشريعة الغراء، وكان طبيعيا – والوضع هكذا – أن تجد في هذا الكتاب اجتهادات فذة تجمع بين الأصالة الفقهية وبين التجديد الاجتهادي، وهذا هو السهل الممتنع في العمل الفقهيّ، وهو شيء لا يتحصل عليه إلا من كان همُّه من العلم والفقه إصلاح الحياة الواقعية، وتلك خلة تصدق هذه الآية: (وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 35).

ولأنّ الحياة شُغْلُه الشاغل، ولأنّ خوضَ غمارِها بشريعة الله قضيتُهُ المركزية، وجدناه يضع كتبًا عدّة؛ يعالج فيها – بشجاعة فقهية مستبصرة – كثيرا من القضايا التي تشاجرت فيها الاتجاهات الفكرية والدعوية، وارتبك فيها الخطاب الشرعيّ، مثل كتاب “الحلال والحرام” وكتاب “فتاوى معاصرة” وكتاب “فقه اللهو والترويح” وكتاب “فقه الأقليات المسلمة” وكتاب “فقه الدولة في الإسلام” وغيرها من الكتب التي تؤكد هذه النزعة الإيجابية عنده، ولفرط اهتمامه بمعالجة المشكلات الحياتية المتجددة أنشأ “المجمع الأوربي للإفتاء والبحوث” لينزل إلى واقع الأقليات المسلمة وما يتفجر فيه من مشكلات.

طبيعة جديرة بالاحترام

يسوغ لي ولك ولغيرنا الاختلافُ في الرأي مع الشيخ القرضاوي، كما يحق لي ولك ولغيرنا التعبير باللسان أو البنان عن المخالفة في كثير من المسائل التي تعرض لها الشيخ باجتهادات جريئة؛ ذلك لأنّ هذه هي طبيعة العمل الفقهيّ، ولاسيما إذا كان صاحب الإنتاج الفقهيّ منغمسًا في حياة الناس، مشتغلًا بهموم الأمّة، متوجهًا إلى الحياة بزاده الفقهي وحصيلته العلمية؛ ليصلحها بالإسلام ويعالج مشكلاتها بالشريعة، لكنّك – ولو كنت في ذروة الخلاف معه – لا تملك إلا أن تحترمه وتعرف له قدره.

ذلك لأنّه إلى جانب – ما يتميز به من خصال وخلال تُصَنّفُه ضمن العظماء – نزل بالفقه إلى الميدان، وخاض به الغمار، وعالج به مشكلات الحياة، وهذا – لعمر الحق – عينُ ما تحتاجه الأمة الإسلامية في أيامنا هذه، ولعل برنامج “الشريعة والحياة” لم يكتسب زخمه الكبير وشهرته العريضة إلا لكونه لامَسَ حياةَ الناس عن قرب شديد، قُرْبٍ صنعه رجلٌ أبى إلا أن تكون الحياةُ ميدانَهُ الرحب، الذي يسبح في خضمه بعلمه الغزير وفهمه العميق، وهذا المسلك في الحقيقة يُكَلّفُ العالم كثيرا ويجهده كثيرا؛ إذْ ما أسهل أن يَعُبَّ المرءُ من معين العلم، ثم يَبُثُّهُ في الهواء الطلق والفضاء والرحب ليتبخر في جو السماء ويتبدد فيها بلا نفع حقيقيّ، أمّا أن ينزل بالعلم إلى الحياة ويعالج قضاياها ومستجداتها به فذلك عبء له كُلْفَتُه التي لا يعرفها بحق إلا من يحاول أن يعاني ما كان يعانيه الشيخ، رحمه الله رحمة واسعة.

الإمامة في الدين

بهذه الخصلة التي تميز بها القرضاويّ تُنَالُ الإمامةُ في الدين، فلا يُشترط لمن يوصف بالإمامة في الدين – من غير المرسلين – أن يصيب في كل ما يجتهد فيه، وما عرفنا عالِمًا مجتهدا تمَّ تقييمه في هذه الأمة بنسبة ما أصاب إلى ما أخطأ، وإنّما اكتسب الأئمة الكبار – الذين كثر بينهم الاختلاف في الاجتهاد – مكانَتَهم وإمامتهم بنزولهم للميدان، ومعالجتهم للحياة بما تعلموه؛ لذلك يجب ألا نتحرج من الاختلاف مع الأئمة والمجتهدين، وفي ذات الوقت لا يمنعنا هذا الاختلاف في الرأي من تقديرهم وإنزالهم منزلتَهم التي يستحقونها، هذا هو النَّفَسْ الإسلاميّ النقيّ، بل وهذا هو النّفس العلميّ المنهجي على وجه العموم.

هل قبض العلم؟

وأخيرا أحب أن أبدد التشاؤم الذي يصيب كثيرا من الناس كلما قبض الله عالما ربَّانِيًّا، اعتمادا على حديث: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) فهذا الحديث مَسَاقُهُ في أمارات الساعة عندما تخلو الأمة من الخير، والأمة ولله الحمد – برغم كل ما أصابها – بخير كبير، وستستقبل – برغم الواقع المرير – أيامًا تعلو فيها رايةُ الحق والعدل، بفضل الله أولا ثم بفضل آثار هؤلاء العلماء الربانيين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بقلم: د. عطية عدلان؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – إسطنبول