بقلم: د. أكرم كساب

مرّت أيام على وفاة شيخنا الإمام، ولم أستطع أن أمسك القلم لأكتب شيئا عنه بالرغم من أني كتبت عنه 3 كتب، وها أنا أكتب عنه هذه الكلمة المختصرة تحت عنوان: رحل القرضاوي الإمام "المُتْعَب" "المُتْعِب"… نعم إنه كان كذلك -رحمه الله- "مُتْعَبا" "مُتْعِبا".

عرفته -رحمة الله عليه- قبل أكثر من 40 عاما، وكان ذلك في بداية طلبي العلم من خلال كتابه "الحلال والحرام"، ثم تعرفت عليه بعمق في فترة الجامعة؛ وحينما سافرت إلى قطر عام 1996 تعلق قلبي به أكثر، فعكفت على كتبه لأستخرج منها اللآلئ والدرر، فكان كتابي "المنهج الدعوي عند القرضاوي"، ثم طلب مني أن أعمل معه، فكان هذا مما أفتخر به.

وقد أدركت أن الشيخ -رحمه الله- جمع بين أمور كثيرة، قلّ أن توجد في غيره، ومنها: شدة الحفظ، وموسوعية العلم، وسعة الخبرة، وكثرة التطواف، وسرعة البديهة، وقوة المناظرة، والريادة في التأليف، والغزارة في الإنتاج، والانصراف عن سفاسف الأمور.

"نعم، لقد مات الإمام "المُتْعِب" لأقرانه وخلفه، "المُتْعِب" لأصدقائه وأعدائه، "المُتْعِب" لمحبيه ومبغضيه، "المُتْعِب" لطلابه وناقديه، "المُتْعِب" للعلماء والحكام"

أما أنه الشيخ "المُتْعَب"، فلم لا؟ وهو "الشيخ الطيّار"، الذي طاف الدنيا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وإذا كان بعض الناس يتحدثون عن الدول التي زاروها، فإن القرضاوي -رحمه الله- كان يتحدث عن الدول التي لم يزرها، بل له في كل دولة زيارات وزيارات، فهو يعرف محافظاتها، بل وبعض مدنها وقراها.

نعم إنه "المُتْعَب"، ولم لا؟! وهو الذي أنهكته هموم الأمة وجراحاتها، فكان صوت الأمة العالي، ولسانها الناطق بالحق، الجاهر بالصدق، المعبر عن خلجات الجماهير، على مدار عقود من الزمن، كان يقاوم بكلماته الفهم المعلول للإسلام، والسلوك المغلوط في التدين، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، كان ذلك ببيانه الزاخر، وحجته القوية، ومواقفه الثابتة؛ ألا يكون هذا مُتْعِبا لأصحاب السلطة وعلماء الشرطة؟!

نعم إنه الشيخ "المُتْعَب" لأنه جمع بين العلم والعمل، بين الحُرقة والحركة، لقد عاش -رحمه الله- حياة الداعية والمرشد، والمثقف والأكاديمي، والعالم والمربي، والفقيه والمفكر، والشاعر والناثر، والناقد والرائد، والمحاور والمناظر، والمعلم والحركي، والتاريخي والواقعي والمستقبلي؛ ألا يكون هذا مُتْعِبا لمن عاصره وأتى بعده؟!

وأما أنه "المُتْعَب"، فقد تعب -رحمه الله- من جراء الدافع عن قضايا الأمة في فلسطين وأفغانستان وكشمير والبوسنة والعراق واليمن وسوريا، ولم تشغله تلك الجنسيات المختلفة، لأنه قال منذ صباه:-

يا أخي في الهند أو في المغرب ** أنا منك أنت مني أنت بي

لا تسل عن عنصري عن نسبي ** إنـه الإسلام أمي وأبـي

رحل الإمام "المُتْعَب" من العقول المتحجرة والأفكار الجامدة، الذين أراد بعضهم أن يبقوا الدين بعيدا عن أي تجديد حتى وإن كان في الأساليب والوسائل أو الفروع والجزئيات.

رحل العالم "المُتْعَب" من تطاول المتطاولين وافتراء المفترين، وها هو يقول عن هذا الصنف: "فلما برزت هذه العداوات التي ليس لي نصيب في تحريكها، حمدت الله تعالى عسى أن يكتب لي بعض الأجر بما يصيبني على ألسنة هؤلاء وأقلامهم، فإن المؤمن يثاب رغم أنفه على ما يصيبه من هم وغم وأذى، حتى الشوكة يشاكها، يكفر الله بها من خطاياه، وما أكثر خطاياي التي تحتاج إلى تكفير، ولا سيما أني متصدق بعرضي لكل مسلم يؤذيني، إذا لم يكن خائنا لله ورسوله، عميلا لأعداء الأمة وأعداء الإسلام".

رحل العالم "المُتْعَب" من العمل لهذه الأمة في كل الميادين، فقد كان لسان أهل فلسطين إذا أحسوا بالقهر، وصوت أهل أفغانستان إذا مسهم الضيم، ومع العراق حين قصفهم العدو، وضمير كشمير وتركمانستان وسوريا واليمن حين وقعت بهم المصائب.

رحل العالم "المُتْعَب" من كثرة الأعباء والأعمال والأشغال، ما بين رئاسة الاتحاد العالمي، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ورئيس مجلس إدارة جمعية البلاغ الثقافية، وعضوية المجامع الفقهية العالمية، ورئيس العديد من هيئات الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية، إلى غيرها من المؤسسات.

رحل العالم "المُتْعَب" من ظلم القضاة والحكام، الذين حكموا عليه بالسجن بل والإعدام، حتى ناله حكمان بالإعدام.

رحل العالم "المُتْعَب" من حمقى الإعلام الذين نالوا منه ومنه علمه، وجعلوا منه شيطانا رجيما، وهو الذي كانت تجري خلفه وسائل الإعلام في شرقٍ وغربٍ تلتمس منه البيان الشافي لقضايا الإسلام.

رحل -رحمه الله- وبقي علمه وأثره وفضله، وأختم هنا بكلماته التي يقولها وكأنه يودع الدنيا وقتها:

يا من له تعنو الوجوه وتخشع ** ولأمره كل الخلائــق تخضـع

أعنو إليـك بجبهة لم أحنهـا ** إلا لوجهك ساجــداً أتضــرع

وإليك أبسط كف ذل لم تكـن ** يوما لغير سؤال فضـلك ترفــع

أنا من علمت المذنب العاصي ** الذي عظمت خطاياه فجاءك يهرع

إن لم يكن مني الذنوب ومنك أن ** تعفو فأين اسـم العفـو المطمـع؟

أين الغفور؟ وأين رحمته التي ** وسعت جميع الخلق؟ أين الموسع؟!

هذا أوان العفو فاعف تفضلا ** يا من له تعنـو الوجوه وتخشـع