ذكر الله تعالى في كتابه الكريم حقيقة نفسية كبرى، حقيقة عامة لا يكاد يخلو منها بشر واحد، ألا وهي استثقال النصيحة، بل، كراهيتها، وتمنى أنها لم تكن، وذلك قوله- سبحانه- {ولكن لا تحبون الناصحين} ولقد تكرر نفس المعنى بألفاظ متقاربة في مواضع مختلفة من كتابنا الكريم.
ولعل السبب في ثقل النصيحة على النفوس، ومن ثم كراهيتها- وكراهية من تأتي من قبله أحيانا- أن النصح لا يخلو من أحد أمرين، إما عيب في المنصوح يرجى معالجته، أو فضل غائب عنه يرجى له تحصيله، وكلا الأمرين دليل كبير على النقص البشري، وإشارة إلى الضعف البشرى. ذلك النقص الذى نردده بألسنتنا، من دون أن نقره واقعًا يجب التعامل معه، وحقيقة من الحمق نكرانها! نعرفه، لكننا لا نحب أن نطلع نحن عليه، ولا يطلع عليه غيرنا، ولا نحب أن يذكرنا به أحد!
تلك طبيعة البشر، وذلك جانب من جوانب النفس المظلمة، ومظهر واضح للتناقض الفاضح بين العلم والتطبيق، فكل إنسان يعلم يقينا حقيقة النقص الحتمي في نفسه، ويعلم معه استحالة أن يصل إلى الكمال البشري، فيخلو من النقائص والمعايب، كلنا يعلم ذلك، بل، ربما يردده، ولا يجد حرجًا في ذلك. لكنه- في الوقت نفسه- يبذل ما في الوسع ليباعد بين هذه الحقيقة ولوازمها العملية، من قبيل التعرف على العيوب، والسعى لإصلاحها، أو التعايش مع ما يمكن قبوله منها، وهكذا.
وكثير ممن لديهم نصيحة لك ربما يعلم هذه المعادلة، فهو ربما يعلم ثقل النصيحة، وربما يعلم من (مشروع المنصوح) من صفاته وطباعه وأخلاقه، ومن تجارب الناصح السابقة، ربما يعلم من مجموع ذلك كله ثمن النصيحة، وتكون الموازنة في نفسه بين أداء النصح وتحمل الثمن. هنا يكمن خطر عظيم وشر مستطير، خطر على الفرد، وخطر على المجتمعات، وخطر على الأمة كلها.
أخطار تباعد بيننا وبين صراط الله المستقيم، أخطار تجعل التغيير والارتقاء ضربًا من الأوهام والأحلام. ذلك الخطر العظيم- في كلمات بسيطة- أن يرتفع ثمن النصيحة حتى لا يكاد يجرؤ عليها أحد. فيؤثر الناس السلامة، ويعتقلون نصائحهم في صدورهم، ويلتزمون الصمت، صمت المقهور، صمت العاجز الذى لا يملك ثمن النصيحة.
وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى، فحرمان الفرد (مشروع النصيحة) من فرص النصح المتاحة يضمن له دوام الترذل والتسفل، ويحرم عليه فرص الارتقاء والتصحيح، ويغلق عليه باب نفسه، بما فيها من عيوب وآفات، فلا هواء إلا ما يتنفس، ولا صوت إلا ما يسمع، ولا علم إلا ما وصل إليه بنفسه، ولا خبرات ولا تجارب، ولا تقييم لأىٍ من أفعاله أو أقواله، ومن ثم لا فرصة فى تحسن أو تحسين، إلا أن يشاء ربك شيئًا.
ومنع الناصح من القيام بدوره، وتكميم فيه، وإلزامه الصمت- صمت القبور- يحرمه من طاعة، ويعيقه عن فريضة، فضلَا عن تشويه النفس، بالتعود على السكوت عن الحق، والرضا بالخطأ والتجاوز، فيسبب ذلك الأمر المشين مسخًا للنفس البشرية، وانتكاسة لفطرتها، وتربية لها على التسفل كذلك.
وتكون خسارة المجتمع أضعافًا مضاعفة، فلا يكون أسرع من انتشار كل خبيث، ولن يكون أقصر من عمر الفضائل المتبقية إلا ذلك الوقت الذى يقى فيه نفس هذا المجتمع حيا ذا أثر أو قيمة. ومن ثم يزداد ضعف الأمة على ضعفها، وتتعقد مشروعات الإصلاح على ندرتها، ونمكن لأعدائنا من أنفسنا ومقدراتنا فوق ما هم ممكنين، ويزداد تباعد الأمة عن صراط ربها المستقيم، ويغدو وعد الله بالتمكين، وحقيقة الخيرية للأمة أوهامًا، ذلك أن الله- سبحانه- جعل الخيرية لهذه الأمة خيرية مشروطة، فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلله}
فانظر- رعاك الله- فداحة الثمن! وأعد النظر فى هذه الكلمات، فلربما كانت كلماتى مبالغة! أو حتى خاطئة. واجعل من نفسك نفسًا عمرية! وردد معه- رضي الله عنه- (رحم الله امرءًا أهدى إليّ عيوبى)، رددها قولًا وعملًا، وفهما ومشاعر، بلسانك وقلبك، شجع إخوانك وكل ذى ود- بل، شجع كل ذي رأي، بل، كل من شاء، شجع كل أحد أن يهديك عيوبك، أو يدلك على خير، افرح بمن يحرص عليك، ويحب لك أن تكون أفضل مما أنت عليه، قدر لمن يتجشم عناء المخاطرة من أجلك، وكافئه على ذلك بخير ما تكون المكافأة، فإن لم تجد، فكلمة طيبة، وابتسامة صادقة، ودعوة من القلب لربك أن يجزى من نصح لك، واهتم بأمرك. واحذر أن تكون ممن يقتل هذه الفريضة، ويهدم الدين! فإن الدين النصيحة.