ممدوح الولي

يتشابه الاقتصاد المصري والتونسي بالعديد من المؤشرات، حيث يعاني كل منهما من عجز مزمن في الميزان التجاري السلعي، وعجز شبه مزمن في ميزان المعاملات الجارية، الذي يتضمن موارد ومدفوعات الموازين السلعية والخدمية وفوائد الاستثمار وتحويلات العمالة والمعونات، وكذلك من عجز مزمن في الموازنة العامة ويتوقع استمراره لسنوات عديدة قادمة، ووجود فجوة تمويل بين الاستثمار والادخار، وارتفاع معدلات الدين المحلى والخارجي، وارتفاع لنسب البطالة وانخفاض لنصيب الفرد من الدخل القومي.

كما أن هناك تشابها في المؤشرات الإيجابية لكل منهما، من حيث حدوث فائض شبه مستمر بميزان التجارة الخدمية، نتيجة إيرادات السياحة وبعض الخدمات الأخرى، كما تشكل تحويلات العمالة بالخارج نصيبا جيدا من موارد النقد الأجنبي بكل منهما.

فخلال الأعوام العشرين الماضية استمرت الواردات السلعية في كلا البلدين تزيد عن الصادرات السلعية، مما تسبب في عجز تجاري مستمر، إلا أن نسبة تغطية الصادرات للواردات في تونس كانت أعلى منها في مصر، ونظرا لكبر هذا العجز التجاري فقد استوعب الفائض في تجارة الخدمات وكذلك تحويلات العمالة والمعونات، ليحقق ميزان المعاملات الجارية غالبا عجزا، مما يدفع البلدين للمزيد من الاقتراض الخارجي نظرا لعدم كفاية الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة غالبا لتغطية العجز في الميزان الجاري.

وفي هذا الإطار لجأ البلدان إلى صندوق النقد الدولي ضمن لجوئهما للاقتراض من البلدان والمؤسسات متعددة الأطراف الدولية والإقليمية، حيث بدأت مصر بالاقتراض من صندوق النقد الدولي عام 1962 بقيمة 24.5 مليون دولار، وتبعه قرض في عام 1964 بقيمة 40 مليون دولار، ثم بقيمة 720 مليون دولار في اتفاق عام 1978، ثم سحب 147 مليون دولار من قرض عام 1991 البالغ 379 مليون دولار، تلاه قرض بقيمة 12 مليار دولار عام 2016، ثم قرضان بقيمة 8 مليارات دولار عام 2020 للمساعدة على مواجهة التداعيات السلبية لفيروس كورونا، وأخيرا الاتفاق على مستوى الخبراء الشهر الماضي على قرض بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 46 شهرا.

7 قروض لتونس من الصندوق

وتشابه الأمر مع تعدد مرات اقتراض تونس من صندوق النقد الدولي، والتي بدأت عام 1964 بقيمة 14.25 مليون دولار، ثم بقيمة 5.6 مليون دولار عام 1965، ثم بقيمة 9.6 مليون دولار عام 1966. وفي عام 2013 تم الاتفاق على قرض بقيمة 1.740 مليار دولار تم سحب معظمه، كما حصلت تونس في عام 2020 على قرض بقيمة 745 مليون دولار عام 2020 لمواجهة الآثار السلبية لفيروس كورونا، وأخيرا تم الاتفاق على مستوى الخبراء للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على مدى أربع سنوات.

وشهد كلا البلدين احتجاجات شعبية على الإجراءات التي يفرضها الصندوق كشروط للإقراض، حيث شهدت مصر انتفاضة الخبز عام 1977 في شكل مظاهرات شعبية حاشدة اعتراضا على رفع أسعار العديد من السلع الأساسية وأبرزها الخبز مرة واحدة، وتكررت انتفاضة الخبز في تونس عام 1984.

ورغم أن وصفة العلاج التي يقدمها الصندوق للدول النامية التي تسعى للاقتراض منه تكاد تكون واحدة، إلا أن هناك اختلافات قليلة في المطالب المصاحبة لقرضي العام الحالي بين البلدين. ففي مصر هناك تركيز على سعر الصرف المرن، وتوسيع نطاق الضرائب وخفض الدعم بكافة صوره سواء على السلع أو الخدمات، والخصخصة للشركات العامة وإتاحة المجال للقطاع الخاص وإزالة الحواجز الخاصة بالواردات.

بينما تركزت المطالب في تونس حول سبل خفض العجز في الموازنة، من خلال توسيع القاعدة الضريبية وخفض فاتورة الأجور والإلغاء التدريجي للدعم، وإصلاح المؤسسات العمومية وترشيد الحوافز الاستثمارية، لكن يلاحظ التشابه في التركيز على الإصلاح المالي في كلا البلدين والإصلاح النقدي بشكل أكبر في الحالة المصرية، وليس علاج جذور المشكلات المزمنة في كلا البلدين.

وهكذا سيتجه القرض المرتقب بكلا البلدين لعلاج عجز الموازنة، أي أنه يتجه لمجال غير مُدرّ للعملات الأجنبية والتي يمكن من خلالها سداد أقساط وفوائد القرض الجديد، والنتيجة توقع تزايد أرصدة القروض، حيث أرفق الصندوق قرضه لمصر بإمكانية حصولها على قرض آخر بقيمة مليار دولار من صندوق فرعي تابع له، وحصولها على قروض بقيمة 5 مليارات دولار من دول ومؤسسات دولية وإقليمية خلال الشهور السبعة المقبلة.

وفي تونس تضمن بيان الإعلان عن الاتفاق على القرض الجديد، مناشدة الدول والمنظمات الإقليمية مد يد العون لتونس، وبما يعني إمدادها بمزيد من القروض، خاصة بعد بلوغ قيمة القروض الخارجية لتونس 41 مليار دولار في منتصف العام الحالي، بما فيها من أعباء لخدمة الديون.

44 مليار تكلفة الدين الخارجي العام المقبل

وهو ما يتكرر في مصر ببلوغ أرصدة قروضها الخارجية 156 مليار دولار في منتصف العام الحالي، وتبلغ قيمة أقساط وفوائد الدين الخارجي المصري متوسط وطويل الأجل في العام القادم 17.6 مليار دولار، بخلاف 26 مليار دولار لأقساط وفوائد القروض قصيرة الأجل، لتصل تكلفة خدمة الدين الخارجي في العام القادم إلى 43.6 مليار دولار.

وهذ ما سيتكرر في السنوات المقبلة، حيث تصل تكلفة الدين الخارجي في عام 2024 نحو 50.2 مليار دولار، شاملا القصير الأجل البالغ 26 مليار على الأقل، والمتوسط والطويل الأجل البالغ 24.2 مليار دولار. وهي أرقام مرشحة للزيادة في ضوء التوسع بالاقتراض، خاصة مع صعوبات عودة الأموال الساخنة للأسواق الناشئة في الأجل القصير، في ضوء استمرار الدول الكبرى في رفع معدلات الفائدة لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم والتي لم تنحسر بعد.

ونظرا لتوجه الجانب الأكبر من صادرات البلدين للاتحاد الأوروبي، حيث يرتبط كل منهما باتفاق مشاركة معه يكفل دخول منتجاتهما لبلاده بدون جمارك، فقد أشارت بيانات صندوق النقد الدولي الصادرة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لتوقع تراجع معدل النمو بدول اليورو في العام المقبل إلى نصف في المائة، مع توقع حدوث انكماش في كل من ألمانيا وإيطاليا والسويد.

وهذا ما يصعّب مهمة صادرات البلدين، والتي ستجد أيضا صعوبات في التمويل من الداخل، في ظل اعتماد الحكومتين على التمويل من الداخل مع صعوبات التمويل الخارجي، وكذلك صعوبة اعتمادهما على الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد من الدول الأوروبية، خاصة مع انحسار الاستثمار الأجنبي المباشر الخارج من الدول الأوروبية في ضوء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية.

وتدنى تصنيف كلا البلدين لدى مؤسسات التصنيف الدولية لدرجة غير استثمارية، وإن كان أكثر تدنيا بالحالة التونسية، حيث وصل إلى "CCC" حسب فيتش، وإلى "CAA1" حسب موديز بنظرة مستقبلية سلبية، وكذلك تأثير تراجع النمو الأوروبي على النصيب الكبير للدول الأوربية من السياحة الوافدة للبلدين.

علاج العجز التجاري مفتاح الحل بالبلدين

وهكذا لن يكون قرض الصندوق هذه المرة المفتاح الذي يفتح باب اللجوء للأسواق الدولية للاقتراض كما حدث مسبقا، ولن تكفي قيمة قرض الصندوق وما سيصاحبه من قروض من الدول والمنظمات الأخرى لسد الفجوة التمويلية في كلا البلدين، والتي تتراوح في الحالة المصرية بين 40 و45 مليار دولار، لذا يصبح الملاذ الأكثر فعالية هو البحث عن حلول في الداخل لسد العجز التجاري الذي يمثل المشكلة المزمنة الأكبر في كلا البلدين.

ومن ذلك خفضُ الفجوة الغذائية وفجوة الطاقة لديهما، حيث تستورد مصر ثلث استهلاكها النفطي، بينما تستورد تونس غالب استهلاكها من النفط والغاز الطبيعي. وإذا كان اكتشاف حقل ظُهر للغاز الطبيعي في مصر قد ساهم في تحولها من استيراد الغاز إلى تصديره، فقد ساهم دخول حقل نوارة للغاز الطبيعي وحقل المنزل النفطي للإنتاج في تقليل فاتورة واردات الطاقة التونسية، مما يعني المضي في تحسين المناخ الاستثماري للقطاع الخاص المحلي في البلدين، والمزيد من الحوافز له بما يحقق المزيد من المنتجات والتشغيل، في ظل بطالة شباب مرتفعة وبطالة متعلمين مرتفعة في البلدين، بما لذلك من احتمالات لأثر سلبي على الاستقرار السياسي.

ولا بد من التوافق بين القوى السياسية في البلدين لتحقيق الاستقرار، وهو الأمر الكفيل بجذب قدر أكبر من التحويلات من المغتربين، وقدر من الاستثمارات العربية المتولدة من الفوائض النفطية والغازية التي تحققت مؤخرا، ويزيد من معدلات السياحة العربية والأجنبية، بما يعزز من موارد العملات الأجنبية، ويزيد من احتياطيات النقد الأجنبي، ويسد الفجوة الدولارية التي تأكد عمليا أن الحصول على العديد من القروض، من صندوق النقد الدولي قد فشل في علاجها، بل ساهم في تفاقمها.

twitter.com/mamdouh_alwaly