الوضع في مصر كالآتي: غضب يعتمل في صدور القطاع الأوسع من المصريين ضد سياسات الإفقار المنهجية، وإجراءات القمع التي لا يحيد عنها نظامٌ مصابٌ بفوبيا التظاهر إلى الحدّ الذي يعتبر معه كل تظاهرة جريمة ومؤامرة كونية.

النظام خائف من الشعب، والشعب بدوره خائفٌ من بطش السلطة، وما تسمّى معارضة في الداخل خائفة من إعلان موقف صريح من الدعوات المتصاعدة طوال الأسابيع الماضية إلى التظاهر والاحتجاج، والتي حددت اليوم الجمعة، 11 نوفمبر/ تشرين ثاني 2022، موعدًا لها.

يختار رأس النظام ركوب الدرّاجة في موكب كبير في مدينة شرم الشيخ للتعبير عن السخرية من دعوات الخروج اليوم، غير أن هذا النمط من أساليب التلويح بالقوة ينمّ عن حالة فزع وهشاشة نفسية بمواجهة أي مظهر من مظاهر الاحتجاج، ولا يمكن لطفلٍ صغير أن يصدّق أن السلطة ليست مرتبكة وخائفة مما يمكن أن يقع اليوم، بالنظر إلى حالة السعار الأمني التي تنتاب أجهزتها منذ فترة، والتي أسفرت عن اعتقال مئات المواطنين، وفرضت عليها إصدار تعليماتٍ بإيقاف كل أنشطة الحياة الاعتيادية في هذا اليوم، بإلغاء مبارياتٍ رياضيةٍ وإغلاق المقاهي واحتلال الشوارع بالآليات العسكرية.

يدرك النظام جيدًا أن الشعب في معظمه ضاق به ويريد الخلاص من الظلم والفقر والاستبداد، لكنه يظن كذلك أن الشعب غير قادرٍ على التخلص من حالة الخوف من عواقب التعبير عن الغضب، وهو الظنّ الذي يمكن أن يتلاشى في لحظة واحدة إن خرج الناس بكثافةٍ تقترب من كثافة الغضب في سبتمبر 2019، ثم بعد ذلك فيما عرف بثورة الجلابيب فيما اشتهرت بتظاهرات ثورة المقاول محمد علي، والتي أصابت النظام بلوثةٍ لا تزال آثارها بادية عليه.

النظام على يقين بأن ثورةً ستأتي عاجلًا أو آجلًا، كما أن الشعب على يقينٍ أكبر بأنه لا سبيل للخلاص من الظلم والقهر إلا إذا دفع ثمن الحرية والعدل، وهو الثمن الذي تراهن السلطة على أنه لم يتوفر للجماهير بعد، غير أن كل شيء قد ينفلت في لحظة خاطفة، مع أول شرارةٍ أو إشارةٍ تقول إن هناك داخل مؤسسات الدولة من لا يرى في الشعب الغاضب عدوًا ولا يعتبر الغضب المشروع عدوانًا على الوطن أو خيانة له. 

قلت سابقًا أننا بصدد نظامٍ يعرف أنه صار مثل "قمينة الطوب" المشتعلة، وقمائن الطوب ظاهرة قديمة تعرفها القرى المصرية، وتُقام فوق الأراضي الزراعية بعد تدميرها وتجريفها، وتحويل تربتها الخصبة إلى طمي، يتم صبّه في قوالب، داخل بناءٍ تلقى في جوفه كمياتٌ هائلة من الأخشاب ومواد الإشعال، ويبقى مشتعلًا شهورا طويلة، تحت حراسةٍ مشدّدة، لإنتاج الطوب المستخدم في البناء. وفي هذه المرحلة، فإن من شأن حجرِ واحدٍ صغيرٍ يلقيه طفلٌ عابر على القمينة المشتعلة أن يقوّضها، ويجعلها كومةً من التراب المحترق.

مرًة أخرى، مصر حُبلى بالغضب والثورة منذ سنوات، وكما علّمتنا تجارب الشعوب والأمم ليست هناك ثورة تولد مكتملة، إذ تبدأ الحكاية بجنين غضبٍ يتخلّق في الصدور .. ثم ينتقل إلى الأرض فينمو طبيعيًا ويكتمل فيكون ثورة، أو ينمو اصطناعيًا، وبمعدّلاتٍ محسوبةٍ ومدروسةٍ من طرفٍ خفيٍّ خبير بميكانيزمات الغضب والإحتجاج، فيكون تغييرًا أو تبديلًا. على أن الناس، في كل الأحوال، سيكونون سعداء بالانتقال من الوضع الراهن، المسكون بكل أنواع العتامة والبلادة والخانق أي أملٍ في حياة كريمة، إلى أي وضعٍ آخر، حتى لو كان مجهول الملامح والسمات.

في كل الأحوال والأزمنة يبقى حقّ الشعوب في الاحتجاج السلمي مقدّسًا لا يمكن لعاقل أن يُنكره أو يصادره أو يسخر منه أو يمارس عليه استعلاءً طبقيًا كريهًا، مهما كان الداعي له والمحرّض عليه.

المصدر: العربي الجديد