هذا الكون خلقه الله

هذا الكون الذي نعيش فيه و نعمره , و نتسلط على ما فيه من حيوان ونبات و جماد , و نحاول أن نحصل على ما فيه من خيرات , و نستغل ما فيه من قوى.

 هذا الكون ليس من صنع البشر ولا من عمل أيديهم , و ما في استطاعتهم خلقه و لا خلق ما دونه , و ما كانوا في يوم من الأيام أهلا لذلك و لن يكونوا , فما هم إلا بشر خلقهم خالق كل مخلوق "بل أنتم بشر ممن خلق"المائدة:18 .

و ما في قدرة المخلوقات أن تخلق و لو تظاهرت على الخلق , و لو اجتمع كل البشر على أن يخلقوا أحقر الذباب وأضعفه لعجزوا , ولو سلبهم أضعف الذباب و أحقره شيئا لما منعوه عنه و لا استنقذوه منه "ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب "الحج:73.

هذا الكون الذي نعيش فيه و نعمره خلقه الله الذي خلق الناس من تراب، ثم سواهم بشرا وصورهم ذكورا وإناثا فأحسن صورهم , و جعل لهم السمع   والأبصار والأفئدة لعلهم ينظرون ويتفكرون فيذكروا نعمة الله عليهم, ويشكروه على ما خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم من فضله "و الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا"فاطر :11.

"يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك "الانفطار:5-8. "و صوركم فأحسن صوركم "غافر:64, "و الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون "النمل:78.

هذا الكون الذي نعيش فيه خلقه الله جل شأنه خالق كل شيء مما نعلم و مما لا نعلم , و مما ندرك و مما لا ندرك , ومما نستطيع تصوره و الإحاطة بكنه "ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه "الأنعام:102.

فهو الذي خلق السماوات و الأرض وما فيها من نمخلوقات , وما بينهما من أجرام لا يحيط بها العلم , و لا يدركها الوصف , و لا يحصيها العد, وهو القادر على أن يخلق غيرها ان شاء , اذ الخلق متعلق بمشيئته , وراجع لأمره "والله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء"المائدة :17 , "لله ملك السموات والأرض وما فيهن" المائدة:120.

وهو الذي خلق الأزواج كلها من النبات والحيوان والانسان , ومما نحيط بعلمه ومما لا تعلم عنه شيئا , ورتب على اتصالها اللقاح والأحبال فالأثمار و الانسان حفظا للنوع و استبقاء للحياة "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " يس:36.

و هو الذي جعل الظلمات و النور , و خلق الليل و النهار والشمس والقمر و النجوم وهو الذي ربط الظلمات بالليل والنور بالنهار , و جعل الشمس دليلا للنهار , وجعل القمر و النجوم لتهتدي بها في ظلمات البر و البحر "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض و جعل الظلمات والنور " الأنعام: 1," هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر"الأنبياء :33.

وهو الذي خلق الموت والحياة , وجعل بعد الموت البعث والنشور ليبلو الناس فيما آتاهم و ليجزيهم بما كانوا يعملون "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا" الملك:2.

هذا الكون مسخر للبشر

و الله الذي خلق هذا الكون قد سخره لخدمة البشر وسلطهم عليه بما وهبهم من أبصار و أسماع و عقول تساعدهم على استخدام ما في الكون من خيرات , و اكتشاف ما فيه من قوى , واستغلال ذلك كله في سبيل نفعهم   وإسعاد أنفسهم "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة" لقمان:20.

فالله قد سخر للبشر – و هم يعيشون على وجه الأرض – كل ما في السماوات وما في الأرض , و كل ما في البر وما في البحر؛ فالسحاب مسخر لخدمتهم يحمل الماء المتجمع من البحار والأنهار ثم يرسله مطرا يحيي به الأرض بعد موتها و ينبت فيها من كل الثمرات رزقا للعباد, والبحار و الأنهار مسخرة لخدمة البشر , منها يتكون السحاب , وعلى مائها يعيش الانسان والنبات وكل الحيوان , وعليها تسير الفلك تحمل الناس الى بلد لم يكونوا بالغيه بغيرها , وفي أعماقها تعيش مخلوقات أخرى يتخذ منها الناس طعاما و حلية , والشمس والقمر مسخران لخدمة البشر , يمدان الكون بالضوء والحرارة , وهما ضرورتان من ضرورات الحياة وكل ما في الكون من صغير و كبير , و معلول و مجهول , مسخر لخدمة البشر , لهم الحق في استطلاع أسراره و السيطرة عليه , واستغلال منافعه ما استطاعوا لذلك سبيلا , فالكون مذلل لهم بإذن الله , وهم مسلطون عليه بأمر الله " الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون , و سخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "الجاثية 12-13"الله الذي خلق السموات   والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار, وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل و النهار و آتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم 32-34.

البشر مسخر بعضهم لبعض

و إذا كان الله جل شأنه قد سخر الكون للبشر, فإنه قد سخر بعض البشر لبعض ليستطيعوا أن يعيشوا في جماعة منظمة متعاونة , و ليكونوا أقدر على استغلال الكون المسخر لهم والانتفاع بخيراته , و المساهمة في بناء حياة انسانية مرضية."نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون "الزخرف:32.

وما سخر الله بعض البشر لبعض إلا لتتم حكمته فيهم وليبلوهم فيما آتاهم , فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها ومن كفر فعليه كفره, ومن آمن نفعه إيمانه :" وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ ٱلْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌۢ " الأنعام 165 , " هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ ۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلْكَٰفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلْكَٰفِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا "فاطر :39.

و لم يجعل الله تسخير بعض البشر لبعض قائما على التحكم , تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ,وانما ربط التسخير بطبائعهم وظروف إمكاناتهم , فجعلهم درجات بما اختلفوا من قوة وضعف , وعلم و جهل , وجد وخمول , وغير ذلك من وجوه الاختلاف المشتقة من طبائعهم ومعارفهم وظروفهم وبيئاتهم و لن يمنع ذلك من كان في درجة دنيا أن يرتفع بعمله وإيمانه إلى درجة أعلى من درجته , وأن يصل إلى القمة في عشيرته وأمته , فإن العبرة في الإسلام بالأعمال والإيمان , ولن يضيع الله عمل مؤمن :"إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " آل عمران:195.مادام العامل قد أحسن عمله و وصل به إلى درجة الإحسان : "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا"الكهف 70.

و لقد آلى الله على نفسه ليحيين حياة طيبة كل من عمل عملا صالحا وهو مؤمن فقال جل شأنه :"من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "الأنعام:132. و دعا الله المؤمنين إلى العمل و حثهم عليه :"و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون"التوبة:105. و رتب على العمل درجاتهم فمن رفعه العمل فلا يحطه شيء , ومن حطه العمل فلا يرفعه شيء : " و لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون " الأنعام :133 .

الإستخلاف في الأرض

البشر مستخلفون في الأرض

و لقد خلق الله البشر في الأرض و استعمرهم فيها "هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها " هود:61.

فلا حرج أن نقول إن مكان البشر في الأرض هو مكان المستعمر فيها , المسلط عليها , وإن الأرض بما فيها مسخرة لهم , مذللة باذن ربهم , وإن حقوقهم وواجباتهم يحددها الله الذي استعمرهم في الأرض, ومنحهم حق التسلط عليها, ولكننا نفضل أن نصفهم بصفة الاستخلاف التي وصفهم بها الله أكثر من مرة. والقرآن صريح في أن الله جل شأنه خلق آدم أبا البشر ليكون خليفة في الأرض "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني أعلم ما لا تعلمون "البقرة :30.

والمفسرون مختلفون في ما هية خلافة الآدميين خلفوا جنسا سابقا كان يسكن الأرض فافسد فيها وسفك الدماء , ومن ثم فالخلافة على هذا الرأي خلافة جنس سابق , و البعض يرى أن الخلافة عن الله جل شأنه لا عن جنس آخر , وأن الله سلط الانسان على الأرض يقيم فيها سننه , و يظهر عجائب صنعه , وأسرار خليقته , وبدائع حكمه , ومنافع أحكامه . وسنرى فيما بعد أن هذا الاختلاف لا أهمية له في بحثنا .

استخلاف البشر مقيد بقيود

ولا جدال في أن الله أوجب على البشر حين أسكنهم الأرض أن يطيعوا أمره و ان ينتهوا بنهيه , وأنه عهد إليهم ألا يعبدوا إلا إياه , و ألا يخشوا غيره , و أن يتحلوا بالتقوى , و أن يحذروا فتنة الشيطان , وأعلمهم من اتبع هدى الله فقد اهتدى , ومن كفر بآيات الله و كذب برسله فقد ضل و غوى , و أنه جعل للمهتدين الأمن , فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون , و جعل للكافرين المكذبين النار هم فيها خالدون , " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون , والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"البقرة 38-39.

" قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) " الأعراف:24-30.

و غدا يحاسب الله البشر على زيفهم و ضلالهم , وعلى تركهم طاعة الله       واتباعهم الشيطان , ويسألهم فلا يجدوا لأنفسهم حجة . ثم يقذف بهم أفواجا إلى النار يصلون حرها جزاء ما عصوا الله و كفروا بآياته و لم يقوموا بعهده " أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) "يس :61-65.

أنواع الاستخلاف

واستخلاف البشر في الأرض نوعان : استخلاف عام , واستخلاف خاص .

فالاستخلاف العام هو استخلاف البشر في الأرض باعتبارهم مستعمرين فيها و مسلطين عليها " هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"هود:62 , وقد بدأ هذا الاستخلاف بآدم عليه السلام ومن بعده كل ذريته فهم جميعا مستعمرون في الأرض , استعمرهم الله جل شأنه فيها , وسخر لهم وسلطهم عليها بإذنه "و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة "البقرة:30.

والاستخلاف الخاص هو الاستخلاف في الحكم , وهو نوعان: استخلاف الدول و استخلاف الأفراد , والاستخلاف في الحكم هو بنوعيه منه أخرى يمن الله بها على من يشاء من عباده أمما وأفرادا بعد أن من عليهم جميعا بنعمة الاستخلاف في الأرض " و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة , و نجعلهم الوارثين"القصص :5 , " و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون "السجدة:24.

و استخلاف الدول معناه الأول تحرير الأمة و استقلالها بحكم نفسها وجعلها دولة لها من السلطان ما يحمي مصالح الأمة ويعلي كلمتها , ومعناه الثاني اتساع سلطان الدولة حتى يشمل فوق أبناء الأمة وشعوبا أخرى.

واستخلاف الدول إذا كان بإذن الله و بأمره منه يمن بها على الأمم , الا أن للاستخلاف مسبباته التي تباشرها الأمم والشعوب فتؤهلهم للاستخلاف, وتمكن لهم في الأرض , وتتم بذلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا . فلا يمكن أن يجيء الاستخلاف اعتباطا وبلا عمل , وإنما يجيء نتيجة العمل الشاق والجهد المستمر, ولقد وعد الله جل شأنه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض , فلم يجعل الايمان وحده هو الذي يرشح المؤمنين للاستخلاف , وإنما وعد المؤمنين بالاستخلاف إذا عملوا الصالحات , والمقصود بالصالحات كل ما يصلح شأنهم في الدنيا من الإعداد و الاستعداد والتفوق , وما يصلح شأنهم في الآخرة من الطاعة واجتناب المعاصي ." وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " النور:55.

و استخلاف الأفراد هو الاستخلاف في الرئاسة وقد يسمى المستخلف خليفة كما سمي داوود عليه السلام "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله , ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب "ص:26.

و قد يسمى المستخلف إماما كما سمي ابراهيم عليه السلام وبعض رؤساء بني إسرائيل :"و اذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن ,قال اني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " البقرة:124, " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ " الأنبياء :73.

وقد يسمى المستخلف ملكا "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " المائدة:20, " وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "البقرة:247.

سنة الله في استخلاف الحكم

و سنة الله جل شأنه في استخلاف الدول والأفراد أن يستخلف الأمة ما كانت أهلا للاستخلاف , وأن يستخلف الأفراد ما كانوا أهلا لذلك , يبتليهم جميعا فيما آتاهم "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم "الأنعام:165 , فإن استقام المستخلفون على أمر الله , ودعوا إليه , وعبدوه وحده لا شريك له ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة و فعلوا الخيرات واجتبوا السيئات , وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر "الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور "الحج:41,"و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون "السجدة :24,         " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ"الأنبياء:73.

إذا فعل المستخلفون ذلك مكن الله لهم في الأرض, وآتاهم من كل شيء سببا "الكهف:84, وكما مكن ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء مما لم يكن يحلم به أو يتخيله " و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء " يوسف:56 , وكما مكن لبني إسرائيل في الأرض على ضعفهم وقوة أعدائهم , بعد أن عبدهم الفراعنة و استعبدوهم , وساموهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم , فمنحهم الله جل شأنه القوة وبوأهم السلطان , ورزقهم من الطيبات وجعل فيهم النبوة والملك , وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين "وقد بوأنا بني اسرائيل مبوأ ورزقناهم من الطيبات "يونس :93 ," يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم أنبياء و جعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " المائدة:20, وكما مكن لقوم يونس لما آمنوا فأصلح لهم أحوالهم في الحياة الدنيا ومتعهم إلى حين , ,"فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين "يونس:98.

والله جل شأنه غني عن العالمين, رحيم بهم , فإذا أمرهم أن يأتوا أو يدعوا فإنما يأمرهم بما فيه صلاحهم , بما يؤدي إلى نفعهم , وهو القادر على أن يذهب بالمكذبين ويستخلف أناسا غيرهم , و لن يعجزه ذلك وقد جاءوا من ذرية غيرهم :" وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " الأنعام :133 .

وما استقام المستخلفون في الأرض على أمر الله فهم عند وعد الله لهم في تمكين و عزة , يأتيهم رزقهم رغدا من كل مكان , حتى إذا ما كفروا بأنعم الله و كذبوا بآياته و خرجوا على ما أرسل به رسله , وظلموا وبغوا وفتتنوا بالقوة والسلطان والعلم , أخذهم الله بغتة وهم لا يشعرون , فسلبهم نعمهم , وأذهب دولتهم واستخلف غيرهم , ولم تغن عنهم عقولهم ولا علومهم ولا أماالهم من شيء , لما جاء أمر ربك و حاق بهم ما كانوا به يستهزئون"    ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون "يونس 13-14,"ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " الأنعام:6 ,"ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا     وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"الأحقاف :26 .

أمثلة المستخلفين السابقين

و لقد ضرب الله لنا من الأمثلة ما فيه مزدجر, و بين لنا من أخبار السابقين ما فيه غناء لكل ذي لب , فهؤلاء قوم نوح كذبوه واستضعفوه ومن معه فاستحلف الله هؤلاء الضعفاء وأهلك الأقوياء الذين غرتهم قوتهم وحملهم الغرور على تكذيب آيات الله " فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " يونس:73.

و هذا هود يدعو قومه عادا ويذكرهم ما حدث لقوم نوح و يخوفهم منه فيقول لهم : " و اذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " الأعراف :63 أي اذكروا كيف استخلفكم الله في الأرض بعد أن أهلك قوم نوح بمثل ما تفعلون , فلما يئس من إصلاحهم قال لهم :"فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم و يستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ"هود:57.

و هذا صالح يذكر قومه بما أنعم الله عيلهم , و جعلهم خلفاء من بعد عاد , و يحذرهم عاقبة البغي والفساد في الأرض " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا و تنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله و لا تعثوا في الأرض مفسدين " الأعراف :74.

و موسى يشكو له قومه ما نالهم من أذى فرعون و ما أصابهم من بغيه و بطشه , فيبشرهم بأن سنة الله لا بد آتية , و يظهر خشيته من أن تأتيهم نعمة الله فيكفروا بها و يفعلوا ما كان يفعله غيرهم من المعاصي "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون "الأعراف:119.

و قارون و فرعون و هامان , تجبروا في الأرض واستكبروا بغير الحق ,  ونسوا نعمة الله عليهم , فلم ينفعهم ما يملكون وما يعبدون من دون الله شيئا , وأخذهم الله بذنوبهم , فمنهم من أخذته الصيحة , ومنهم من خسفت به الأرض , ومنهم من غرق "وقارون و فرعون وهامان و لقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " العنكبوت : 39,40.

مركز المستخلفين في الأرض

علمنا أن الله جل شأنه استخلف البشر في الأرض , وسخر لهم ما في السماوات والأرض جميعا وألزمهم أن يتبعوا هداه وأن يطيعوا أمره         وينتهوا بنهيه , ومقتضى ذلك أن الاستخلاف في الأرض رتب للبشر حقوقا و ألزمهم واجبات , فاذا أردنا أن نحدد مركز المستخلفين في الأرض فينبغي أن نعرف معنى الاستخلاف اللغوي و أن نستخرج معناه الفقهي .

والاستخلاف لغة هو إقامة خلف يقوم مقام المستخلف أو مقام الغير على شيء ما , فاذا طبقنا هذا المعنى اللغوي على استخلاف الله جل شأنه لآدم   وذريته في الأرض قلنا أن البشر أما خلفاء لله أو لغيره.

وهذ النتيجة هي التي انتهى اليها المفسرون في تفسيرهم لقوله تعالى      " وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " البقرة:30, فبعض المفسرين كما قلنا من قبل يرى أن البشر خلفوا خلقا آخر كان يسكن الأرض فأفسد فيها و سفك الدماء والبعض يرى أن الخلافة عن الله جل شأنه لا عن خلق آخر .

ولكن الكثيرين لا يجيزون أن يقال لبشر خليفة الله , و حجتهم أنه إنما يتخلف من يغيب أو يموت , والله لا يغيب و لا يموت , كما يحتجون بأن أبا بكر قيل له يا خليفة الله فقال "لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم "بينما يجيز غيرهم أن يقال لبشر خليفة الله مادام قائما بأمر الله في خلقه , و لقوله جل شأنه "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات"الأنعام :165.

ولا شك أن الرأي الأخير هو الأصح , فما ينبغي أن يقاس بالبشر من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , واذا كان شأن الله أن يستخلف وهو شاهد لا يغيب حيّ لا يموت , و يكفي قوله "اني جاعل في الأرض خليفة" وقوله "هو الذي جعلكم خلائف الأرض "ليجوز القول بأن البشر خلفاء الله خصوصا وأنه استخلفهم في ملكه وسخره لهم "لله ملك السموات والأرض و ما فيهن " المائدة:120"و سخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه " الجاثية:13.

واذا صح هذا فلا يهمنا ان نتحقق مما اذا كان البشر خلفوا خلقا سابقا عليهم أم لا , لأن هذا الخلق السابق إنما استخلفه الله في الأرض كما استخلف البشر فإذا خلف البشر من كانوا خلفاء لله فالبشر قد صاروا بذلك خلفاء لله أيضا , و من ثم تنتهي في كل الأحوال إلى أن خلافة البشر عن الله جل شأنه و ليست عن غيره .

أما معنى الاستخلاف الفقهي فهو النيابة أو القوامة بحسب مدركات البشر الفقهية ذلك أن الله استخلف البشر في الأرض بقوله "إني جاعل في الأرض خليفة"و قد حدد الله جل شأنه وظيفة البشر في هذا الاستخلاف بقوله"     وهو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها"هود:61. و الاستعمار معناه التمكين و التسلط و هذان المعنيان ظاهران في قوله تعالى "و لقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون "الأعراف :10.       وقوله " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر " الحج :41 . و قوله"وسخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه"الجاثية:13.

والبشر في تسلطهم على الكون وانتفاعهم بما سخر الله لهم من مخلوقات مقيدون بطاعة الله والاهتداء بهديه والابتعاد عما نهى عنه "فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون " البقرة:38." أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ "يس:61,62.

والبشر بعد ذلك ليسوا ألا بعض ما خلق الله " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " الروم 40. خلقهم من تراب و جعلهم بشرا ينتشرون في الأرض "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون "الروم:20. و ما خلقهم ليعبدوه حق عبادته " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "الذاريات:56. وسماهم عباده و عبيده , وهو القاهر فوقهم , يجيزهم بما قدمت أيديهم , فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها "وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير"الأنعام:18. " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد " فصلت :46.

فاستخلاف البشر في الأرض معناه أن الله جل شأنه أسكنهم الأرض         واستعمرهم فيها ومنحهم حق التسلط على ما في الكون للانتفاع بما فيه من خيرات في حدود أمر الله و نهيه, وإذا كان الله قد أسكن عبيده في أرضه    وسخر لهم ما في الكون منحة منه فإن ما في أيدي هؤلاء العبيد من ملك الله إنما هو من الناحية الفقهية عارية ينتفع بها البشر , و القيام على العارية في فقه البشر نيابة , وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن مالكه , و إذن فكل فرد من أفراد البشر يعتبر نائبا عن ربه جل شأنه فيما سخر الله للبشر من الكون وما سلطهم عليه وهو مقيد في كل تصرفاته بحدود هذه النيابة .

وهكذا لا يكاد معنى استخلاف البشر في الأرض لغة يختلف عنه فقها ,     ونتيجة ذلك أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة أو النائب , و أن الخلافة أو النيابة هي عن الله جل شأنه , وهي قائمة في حدود ما سخر الله للبشر من مخلوقاته وما سلطهم عليه من ملكه , وما خولهم في ذلك كله من الاستغلال والانتفاع. ويجب أن لا يفوتنا أن تسخير الكون للبشر و تسليطهم على ملك الله لا يخرج هذا الذي سخر لهم وسلطوا عليه من سلطان الله , ولا يحد من هذا السلطان شيئا , فالبشر مثلا يحرثون ,        ويلقون فيها الحب ولكنهم يرجون الإنبات و الإثمار من الرب , وما يحرثون و يلقون الحب الا بما منحهم الله من حياة , وبما ركب فيهم من عقول ,    وبما علمهم من علم , فهم يستخدمون نعمة الله للانتفاع بنعمة الله , و مالهم في ذلك من سلطان إلا سلطانا منحهم الله إياه.

واجبات المستخلفين في الأرض

و البشر لم يستعمروا في الأرض ولم يستخلفوا عليها ليفعلوا ما يشاءون دون قيد و لا شرط , وليتركوا ما يشاءون دون حسيب ولا رقيب , وإنما استعمرهم الله في الأرض واستخلفهم عليها ليعبدوه وحده لا شريك له ,    وليطيعوا أمره , و ينتهوا بنهيه , فإذا كان استخلافهم في الأرض قد منحهم بعض الحقوق , فإنه قد حملهم كثيرا من الواجبات .

ولقد أوجب الله على البشر عامة يوم أسكنهم الأرض أن يهتدوا بهديه ,     وأن يتبعوا أمره . " فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون " البقرة:38. وعهد اليهم ألا يعبدوا الشيطان , وأن يعبدوا الله "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم " يس:61,62. وكل من هذين النصين أمر عام باتباع ما أنزل الله و تحريم ما عداه .

ووعد الله جل شأنه المؤمنين به , المهتدين بهيده , أن يبدل خوفهم أمنا ,   وضعفهم قوة , وأن يستخلفهم في الحكم كما استخلف الذين من قبلهم ,     وأن يمكن لهم ويجعل لهم دولة في الأرض وسلطانا على الناس و الدول , ما داموا قائمين بأمر الله , يعبدونه لا يشركون به شيئا , ولا ينحرفون عن طاعته , قليلا ولا كثيرا " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا"النور:55.

وبين الله لنا واجبات المستخلفين في الحكم في أخصر عبارة وأجمعها فقال: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " الحج : 41 . فمن واجبات المستخلفين في الحكم دولا و أفرادا أن يقيموا الصلاة , ولا يقيمها إلا مؤمن يعترف بأن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله , وهذا الاعتراف يقتضي واجبات لا حصر لها .

ومن واجبات المستخلفين في الحكم ايتاء الزكاة , ولا يؤتى الزكاة إلا مؤمن يسلم بما عليه من واجبات , ويعترف بما في ذمته للغير من حقوق .

ومن واجبات المستخلفين في الحكم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ,  ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من استقام على أمر الله , و تمسك بحبله , و حرص على طاعته .

وقد اقتصرت الآية على هذه الواجبات الثلاث , لأن توفرها دليل على توفير غيرها مما يوجبه الإسلام , فإقامة الصلاة في الأمة دليل على الإيمان و الطاعة , و ايتاء الزكاة دليل على أخذ النفس بالحق ورد الحقوق لاربابها , و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دليل على الاستمساك بما أمر الله و دعوة الغير إليه و كفهم عن الفسوق و العصيان .

والمستخلفون في الحكم ليسوا إلا بشرا مستخلفين في الأرض؛ فإذا وجب عليهم كحاكمين أن يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة و يأمروا بالمعروف       وينهوا عن المنكر فإنه يجب عليهم كبشر مستخلفين في الأرض أن يطيعوا الله و يهتدوا بهديه , و ينتهوا عما نهى عنه.

ونخلص من كل ما سبق أن المستخلفين في الأرض سواء كان استخلافهم عاما أو خاصا عليهم واجبات عديدة تدخل كلها تحت عنوان هام هو طاعة الله , أي الائتمار بأمره و الانتهاء عما نهى عنه.

جزاء تعدي حدود الاستخلاف

رأينا فينا سبق أن الله استخلف البشر في الأرض وسخر لهم مخلوقاته      وسلطهم على ملكه وخولهم استغلاله والانتفاع به , وأنه قيدهم بطاعته, و الاهتداء بهدبه , والانتهاء عما نهى عنه , وانتهينا إلى أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة و النائب , وأن الخلافة والنيابة هي عن الله جل شأنه .

ومنطق الفطرة يقضي بأن الخليفة أو النائب اذا خرج عن حدود ما منحه من سلطان أو ما قيد به من قيود فعلمه باطل بطلانا لاشك فيه , ولا يصح منه إلا ما يدخل في حدود الخلافة أو النيابة .

وهذا هو نفس الإسلام دين الفطرة , فنصوص القرآن قاطعة في أن الشرك بالله و كراهة ما أنزل و تكذيب آياته و الكفر بعد الإيمان , كل ذلك محبط للأعمال :"و لقد أوحى إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين"الزمر:65."ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأبحط أعمالهم "محمد:9. "والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم " الأعراف:147.

"ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة " البقرة:207. و حبوط العمل معناه ضياع العمل وبطلانه بحيث يعتبر كأن لم يكن له وجود , وهذا ما نسميه في عرفنا بالبطلان المطلق أي البطلان الذي لا يقبل التصحيح .

وكما يترتب البطلان على الشرك بالله و كراهة ما أنزل وعلى الإلحاد والكفر بعد الإيمان , فإنه يترتب أيضا على عصيان المؤمنين أمر الله ورسوله , فكل مؤمن بالله ورسوله عصى الله ورسوله في أمر صغير أو كبير أو خرج على الطاعة في أي شيء فعمله الذي عصى به الله و رسوله أو خرج به على الطاعة انما هو عمل باطل لا يقبل التصحيح , و ذلك قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم" محمد:33. و قول الرسول صلى الله عليه و سلم :"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي من عمل عملا خارجا على ما جئنا به فعلمه مردود لا أثر له .

ويستخلص من النصوص السابقة أن كل عمل خارج عن حدود الله هو عمل باطل بطلانا مطلقا و لا أثر له من الوجهة الشرعية , سواء كان العمل حاصلا من مؤمن أو كافر ومن معترف بالله أو منكر له , وليس لمسلم أن يعترف بهذا العمل أو يصححه أو يقوم بتنفيذه , أيا كان نوع العمل حكما أو ادارة أو سياسة أو اقتصادا أو تثقيفا أو غير ذلك , و سواء كان تصرفا شرعيا أو فعلا ماديا , و سواء وقع في دار الإسلام أو في دار غيره .

ذلك هو حكم الإسلام الذي جعله الله للناس دينا : " ان الدين عن الله الإسلام"آل عمران :19.

وأعلمهم أنه لا يقبل منهم التدين بغيره :"ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه "آل عمران :85. و دعاهم إلى أن يتمسكوا به ويموتوا عليه :"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"آل عمران :102.

من كتاب "الإسلام وأوضاعنا السياسية" للقاضي الشهيد الدكتور عبد القادر عوده رحمه الله.