قدرته على ترجمة الأفكار والمعاني إلى أفعال وأعمال

دعا الإمام البنا المسلمين إلى فهم القرآن الكريم بوصفه علامات هادية على طريق الفعل، أي إلى فهم القرآن بالتعمق في معانيه ومعايشته فعليا في حياتهم؛ فالفهم والعمل مصطلحان يترددان بصفة دائمة في رسائله وكتاباته؛ ففي الوقت الذي كان يدعو فيه إلى إحياء روح الإسلام وعزم الصحابة من أجل نهضة حديثه؛ كان يتحدث بصورة متبادلة عن التقدم والرقي والعمران وبناء المستقبل والتطلع إلى الأمام وتكوين الأمة وروح الأمل والتفاؤل.كان يحب أن يرى أفكاره ومصطلحاته ممثلة في واقع، مبلورة في حياة، مترجمة في مجتمع.

كان يؤمن أن النفس الإنسانية ميالة بطبيعتها أن ترى النظريات والمبادئ ممثلة في أنظمة وأوضاع. ويدرك أن النفس الإنسانية بطبيعتها لا تتحمس لفكرة لا تعرف كيف تنصرها. ويرى أن الأهداف بغير وسائل تحققها تظل مثاليات لا يستطيع الإنسان أن يعيشها. وكذلك الوسائل بغير أهداف تحققها وتصل إليها تظل جهوداً مبعثرة.وكان رحمه الله غيورًا على وطنه الإسلامي يتحرق كلما سمع أن جزءًا منه أصابه سوء أو ألم به أذى، ولكنه لم يكن يصرف غضبه في مصارف الكلام والضجيج والصياح، إنما يوجه طاقته القوية إلى العمل والبناء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب.كان يرى أن العمل فور التلقي منهج قرآني ييسر العمل ويبدي ما فيه من يسره وبركته، رغم صعوبته ومشقته، كما يفتح للنفس آفاقاً من المعرفة والمتاع.ولأمر ما كثيراً ما كان يردد في رسائله، «فلسنا منتديات فكرية خطابية، ولا مدارس حوارية»، ويؤكد أن: «كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا».وكان يعتقد أن آفة النهضات عندما تسبق النظرية التطبيق حيث يكثر الجدل والنزاع. وكان يدرك رحمه الله أنه يحكمنا ما يحكم غيرنا من قوانين الجد والعمل.والذين تكلموا عن القرآن الكريم ذكروا أنه كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم وأصحاب الخروقات، فذكرت فيه مصطلحات واقعية مصاغة على صورة هذا العالم مثل العقل والقوة والشراء والبيع والعقد والرهان والكتابة والتجارة والدين والأسلحة والقتال والعزم والحذر والربح والانتقام والصيد والعقاب والعدل والثمار والفاكهة والشفاء والمنافع إلى جانب الصلاة والوضوء والتطهر والصيام والزكاة والحج.

والذين تكلموا عن صفة النبي ﷺ ذكروا من صفاته، أنه عابد يفكر تفكير من ينتظره العمل وليس تفكير من ترك العمل ليوغل في الفروض ومذاهب الاحتمال والتشكيك.ولم يكن عمله عمل النساك الذين هزلت أجسادهم ولم يبق لهم إلا رحلة الزهادة والانقطاع في الصوامع والبيعات، بل المجهود العنيف والدأب المخيف بدلا من المعاناة والرضوخ للظلم. فإذا وقع الأمر فقلما يتغير.

وقد أدرك البنا -رحمه الله- أن عدة النهضات زعامة ومنهاج، يقول – رحمه الله: «وأما المنهاج فقليل الموارد، عملي بحت، ملموس النتائج وإن قلت»وأدرك الرجل أن حاجة العمل الإسلامي المعاصر إلى بيعة على عمل تحتاجه الأمة وبمواصفات يحتاجها العمل، فجعل من غايات الدين وعزائمه أهدافا وضعها ضمن مجال المستطاع. جعل منها القريب ومنها البعيد، وما هو واجب كل فرد على حدته وما هو واجب الجماعة كهيئة عاملة وفق مراتب معلومة معروفة البدايات واضحة النهايات لأن من أعظم الشرور ترك ترتيب الخيرات، فيظل الواجب مهملا لا ينهض به أحد ولا يستقر على حال مبتدئأ بإصلاح نفسك ومنتهياً بأستاذية العالم. ولم يكتف بالعموميات، ولكنه طرح لكل مرتبة ما يلزمها من تطبيقات عملية وإجراءات تفعيلية كي لا ينفق الوقت في غير طائل أو تبدد الطاقة في غير موجب.فعندما تكلم عن إصلاح نفسك حتى تكون قوي الجسم متين الخلق مثقف الفكر قادر على الكسب مجاهد لنفسك وجعل لكل صفة ما يحققها من وسائل عملية تكافئها. فيجعل من (الدروس) تنمية للعقول والأفكار (مثقف الفكر)، ويقول لأن حقيقة الإيمان بالله هي حقيقة الفهم عنه.

ويجعل من الفرق (الكشافة والجوالة) وسيلة لتنمية الجسوم والأبدان (قوي الجسم) لأن فرائض الإسلام لا تؤدى كاملة صحيحة إلا بجسوم قوية اعتادت تحمل أعباء الكسب والعمل.

ويجعل (الليالي الإيمانية ) وسيلة للمران على حسن الصلة بالله تعالى (مجاهدا لنفسه) لأن كل أمر خطير يحتاج إلى حياة موصولة بالله جل شأنه.وفي الوقت الذي أعلن فيه عن حرص الإسلام على توجيه أهله إلى المثل العليا وتقوية رابطتهم ورفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى الأفعال والعمليات أوضح السبيل إلى ذلك بتكوين أسر من أهله من أجل تأليف الأمة المتآخية بروح الله وأخوة الإسلام، وجعل مظاهر تقوية هذا الرباط في أركان ثلاثة: التعارف والتفاهم والتكافل.

حتى ينتفي العجز والقصور والغفلة والفتور والاستهتار واللامبالاة وعدم الاكتراث.لقد فطن الرجل إلى ما يحتاجه الإسلام من عمل ضخم تعبأ له كل الجهود من أجل أن يستأنف مسيرته ليتبوأ مكانه، فاتسمت دعوته بالرؤية الواضحة والحركة الجادة والوسائل السائغة شرعا، المكافئة لأسلحة الخصوم، في ظروف غاية في الصعوبة والقسوة؛ فحقق ما تحتاجه الأمة ويقتضيه الواجب بعبقرية في التنفيذ وبأسلوب المحترف الراغب في الآخرة وما عند الله من الرضى والمتاع.

نسأل الله أن يتغمده برحمته ويلحقنا به في الصالحين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .