فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) الرعد

وأنت تقرأ من هذه الآية الكريمة تستحضر كثيرًا من المعاني التي تؤكد أن الحق أقوى، والخير أبقى، وأن الحق قوته فيه؛ لكونه حقا، والباطل يحمل ضعفه ووهنه فيه لكونه باطلا، وأن الخير أبقى والشر يفنى.

ومما يتصل بهذا المعنى ما يُثيره البعض حول الدعوة والدعاة من شبهات وأكاذيب، يقصدون من ورائها تضليل الناس وإبعادهم وتخويفهم من الدعوة، أو تشويه رموز الدعوة ورجالها حتى ينالوا منها ويفضون الناس من حولها، وهذا النهج ليس بحديث أو جديد، فقد انتهجه أقوام الرسل والأنبياء ممن كفروا بهم وأنكروا دعوتهم، كذلك انتهج المغرضون هذا النهح مع كل دعوة وجدوا فيها تهديداً لعروشهم أو مصالحهم.

ولكن الأسى والأسف يصيب النفس حينما نجد بعضا من أبناء الدعوة – ولا سيما في أوقات المحن والأزمات – ينتهجون هذا النهج بقصد أو دون قصد، متأثرين في ذلك بما يروجه بعض خصوم الدعوة عنها، فترى بعضهم ينتقد المواقف والقرارات التى اتخذتها القيادة في أمر ما ولم تكن نتائجها مرضية، أو ترتب عليها آثار وتضحيات، وتتحول صفحات التواصل ووسائل الإعلام إلى ساحات للتلاسن والتلاوم، ثم تتطور لدى البعض إلى التجاوز واتهام النيات، وتزداد حدتها لدى القلة إلى أن تصل إلى التشكيك في الأخلاق والسلوكيات والنيل من الأعراض. للأسف الشديد!!

إن من يقضون أغلب الأوقات في التهكم والتجريح، ونشر الأكاذيب وإثارة الشبهات دون سند أو روية، ليس لديهم وقت لعمل جاد لخدمة دعوتهم ودعم قضيتهم وأداء رسالتهم.

وأقول لهؤلاء: لو كُنتُم تنتمون للدعوة بصدق وتعملون لها بحق، لحرصتم على العمل بدلًا من الجدل، ولجبرتم التقصير بدلًا من التشهير. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17).

ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا حينما تناول خطورة نشر الشائعات والأكاذيب حول الدعوة والدعاة، وبين واجبنا نحو هذا الأمر، فقد أورد في (مذكرات الدعوة والداعية) أنه قد انتشرت شائعات كثيرة حول مشروع بناء مسجد الإخوان المسلمين في الإسماعيلية، وكان تعقيب الإمام البنا على هذا الأمر ما يلي:

«وأخذت الألسنة تطول والكلام يكثر حول مشروع المسجد الذي لم يتم بعد.ومضت عليه فترة الإجازة وهو في استراحة تامة وسمعت هذا اللغط فلم أعبأ به ولم أحاول الرد عليه وأنا لا أعلم قاعدة أفادتني كثيرا في سير الدعوة العملي وهي أن الإشاعة وأكاذيب لا يقضى عليها بالرد ولا بإشاعة مثلها، ولكن يقضى عليها بعمل إيجابي نافع يستلفت الأنظار ويستنطق الألسنة بالقول فتحل الإشاعة الجديدة وهي حق مكان الإشاعة القديمة وهي باطل». (مذكرات الدعوة والداعية: ص95)

في التبيّن والتثبّت

وما أحوجنا إلى خلق التبين والتثبت، ولا سيما في أوقات الفتن والأزمات والمحن والشبهات، ولنتدبر قول الله تعالى على لسان نبيه سليمان – عليه السلام -، وهو يخاطب الهدهد: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِين﴾؛ فإن ذلك يرشدنا إلى: أن التأنّي والتروّي والتبيّن والتثبّت شعارُ المسلمِ ومنهجهُ عندَ سماعِ أيّ خبر أو التفاعل مع أي نبأ.

يا أخي: تمهل في إصدار اﻷحكام على اﻵخرين، وتثبت فيما تقول في حق غيرك؛ وانظر ودقق فيما تسمع وتقرأ، حتى لا تصيب أحدًا بجهالة فتندم، أو تظلم غيرك دون جريرة فتأثم. ﴿فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ. مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾.(الحجرات: 6).

وهذا النداء إلى مثيري الشبهات وأصحاب التأويلات:

يا صاحب التأويلات والتفسيرات، خسرت بما افتريت، وأفصحت عما طويت، فهل تبينت فيما كتبت؟، أو تثبتت فيما تجنيَّت؟

تبارز بقلمك إخوانك، وينالهم منك طول لسانك، وتطعن فى نياتهم ببنانك. فهلا حفظت الود والجميل، ونصحت بالحجة والدليل؟.

سامحك الله، حين تفتح أبواب الجدل رغم كثرتها، وتثير الفتن رغم قسوتها.

قل لي بالله عليك: ما الذى جنته يداك مما كتبت؟ وما الذي عاد عليك بعدما افتريت؟

أجيبك أنا: سيذهب جفاء ما أوّلت، وإلى مجاهل النسيان ما افتريت. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17).

وختامًا: الكيِّسُ من عاش فى ظلالها

فدعوة الحق سبحانه هي غرسه، وما غرسته يد الله تبارك وتعالى لن تنال منه يد البشر، وشجرة الدعوة ما أعمق جذورها، وما أورف ظلالها، وما أطيب ثمارها، مباركة في منبتها، سخية في عطائها، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها.

والكيِّس من عاش في ظلالها، وحافظ على أصولها، وبذل في رعايتها، وساعد في نمائها، وذاد عن حياضها، حتى ينعم الناس بخيرها، وتزدان الحياة بثمارها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين