أخلاق المؤمنين وقيمهم ثابتة، لا تغيرهم الضغوط ولا يتأثرون باختلاف الأحوال، فقد قيل للصديق يوسف -عليه الصلاة والسلام- (إنا نراك من المحسنين) قيل له هذا الكلام حينما كان سجينا بين المسجونين، لا يملك من أمر نفسه قليلًا ولا كثيرًا، وقيل له ذات القول حينما كان عزيز مصر، قد مكن الله له فى الأرض يحكم ويقضى بما يشاء، يسمع له الجنود، وتتحرك بأوامره الأرزاق حيثما يريد.

وهكذا الصادقون، هكذا الأخيار، هكذا المؤمنون، لا تتغير قيمهم وطباعهم وأخلاقهم، مهما تغير الزمان والمكان والحال والموقف، هم لكل فضل أهل، وعلى كل خير دليل، تراهم دائمًا كبار النفوس، تعلوهم عزة الحق مع تواضع العباد الخاشعين، تتفجر من أقوالهم وأفعالهم صور الأخلاق الرفيعة الراقية، حين تسمع عن أفعالهم، وتأتيك أخبارهم، فكأنما تقرأ من كتب السابقين وحكايات الصفوة من السلف الصالحين، يذكرون الناس بأخلاق المجد فى عصوره الشريفة، ويحيون فى زمانهم فضائل وقربات ظنها الكثير من الناس أوهامًا وأحلامًا لا مجال لتحقيقها، ولا يمكن تكرارها، ولا تأتى من بشر أمثالهم

منبع كنزهم ومصدر قوتهم تلك الاستقامة المذهلة على صراط الأخلاق الحميد، يتغير الناس من حولهم وهم على فضلهم ثابتون، يتبدل الصديق عدوًا لكن أدبهم معه لا يتبدل، ترى من كان يخطب ودهم بالأمس وقد كان يلتمس قربهم وخيرهم وما لذ وطاب منهم ـ تراه اليوم يحمل عليهم ولا يدخر جهدُا فى رميهم بما يؤذيهم من كاذب الأخبار والأحداث، لكنهم فى صبرهم على جهل هؤلاء كالجبال الراسيات، وفى دوام عطائهم وبذلهم كالرياح المرسلات

إنهم الدعاة الحاملون الخير دوما، إنهم الدعاة المتصلون برسل الله وأنبيائه، المقتدون بهم، يرميهم الناس بالحجر فيلقون إليهم أجمل الثمر، إنهم الذيم بايعوا ربهم على حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، إنهم الذين يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، شعارهم (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا) ويعللون ذلك (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرًا) ويرجون أن يحقق الله لهم (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا..)

إنهم هم الذين بايعوا محمدًا على الجهاد فى سبيل الله، والسير على دربه حتى نهاية الشوط، ونهاية الشوط فى الجنة إن شاء الله، بايعوا على الطريق مشقته وطوله وكثرة العقبات فيه، وضخامة التحديات وفداحة التضحيات، بايعوا نبيهم على الرحمة بالناس كما رحمهم صلى الله عليه وسلم، بايعوه على الحلم والشفقة عليهم حين يجهلون، على الإحسان إليهم حين يسيئون. يقولون كما قال- صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

هم الذين بايعوا محمدًا على الصبر والثبات، وتحمل أعباء الطريق، لذلك تزداد أخلاقهم حسنا وجمالًا كلما ضاقت بهم الأمور واشتدت عليهم المحن، وإنما تظهر معادن الناس عند الشدائد، وكما قال الشاعر:

لولا اشتعال النار فيما جاورت.... ما كان يعرف طيب عَرْف العود.

ما أسهل أخلاق الرخاء، وما أيسر أن تجد الناس كل الناس على الخلق الفاضل الكريم ما داموا لم يختبروا، بل لماذا لا يتخلقون بأفضل الخلق فى وقت الأمن والرخاء؟ وما الذى يمنع من إظهار الفضائل ما دام ذلك بالمجان؟ بل يحصل الناس فى المقابل على الثمن الضخم الكبير لهذه الأخلاق السهلة من المديح وحسن الذكر وجميل العلاقات وبشاشة الوجوه!

لكن التحدى الحقيقى الذى يواجه الناس هو أخلاق المحنة، حين لا يجد الإنسان مقابلا لأخلاقه الحسنة إلا ما يرجوه عند ربه، ولا يجد معينا على نفسه إلا دينه وخلقه وتقواه، ويجد الشيطان فى كل اتجاه يغريه بالانتصار لنفسه وقد يزين له ويلبس عليه: أنه ينتصر للحق، ويجد لنفسه ألف سبب وعذر لأن يعامل الناس بما يعاملونه به من سيئ الأخلاق ورذيل الطباع، حينها يعز الخلق الفاضل الكريم، ويبخل الناس بتلك الفضائل بخلًا شديدًا إلا من رحم الله.

والذى يميز المؤمن الصادق صاحب الدعوة الأصيل هو تلك المواقف العزيزة، والمحن الحقيقية، والتى تضغط على الناس ضغطًا رهيبًا، وتضعه فى الامتحان الكبير، حين يجب عليه أن يختار، حين يجب عليه أن ينتصر، إما لنفسه ولكبريائه الزائف ويشفى صدره بأى ثمن، وإما أن ينتصر لدعوته وقيمه وأخلاق الأنبياء التى يحملها، وذلك هو الذى يمنحه صفة الدعوة وشرف الانتساب وعظمة الصحبة الكريمة، إنه ذلك التميز الذى لا يستطيع أحد منافسته فيه إلا من يشاركه الشرف نفسه والطريق ذاته، إنه ميدان التفرد، إنها النعمة الكبرى التى خص الله بها أولياءه، إنه النور الساطع، نور الوحى، نور النبوة، الذى يحمل الدعاة من قبسه وعبقه، فينشرون فى دنيا الناس مثل ما كان ينشر نبيهم العظيم، وكل إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم صلوات الله.

أيها الدعاة المخلصون! ايها المؤمنون الصادقون! إنه طريق النبوة، طريق الخلق الفاضل الثابت رغم المحن، إنه دليل الصدق وأمارة الاتباع الحق، إنه شرط النصر والتمكين، وشرط فوز المؤمنين بما أعده لهم ربهم، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا...) فارجعوا إلى حصونكم، وتترسوا بدعوتكم.