وأنت تقرأ قول الله تعالي في سورة الزمر:

﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿11﴾ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ

الْمُسْلِمِينَ ﴿12﴾ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿13﴾ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ﴿14﴾ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿15﴾﴾.

﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ﴾

إنه أمر واضح وصريح بتمام الإخلاص وكماله لله رب العالمين، الإخلاص الذي يُحيي القلوب ويُسعد النفوس، نعم إنه الإخلاص طريق الخلاص، وباب الفتوحات وسبب إقالة العثرات، ورحم الله الإمام بن الجوزي حين قال: «إنما يتعثر من لم يُخلص.»

الإخلاص الذي يحتاج منا إلى جهد في العزم ومجاهدة للنفس، فهو ثقيل على النفس شاق عليها، إذ ليس لها معه حظ أو نصيب.

ورغم مشقته إلا أن لذته في النفس السوية المخلصة لا تساويها لذة، حيث صلاح البال، وانشراح الصدر، واطمئنان القلب، ونور في الوجه، ومحبة في قلوب الخلق.

يقول: سيد قطب – رحمه الله - هذا المقطع كله يظلله جو الآخرة، وظل الخوف من عذابها، والرجاء في ثوابها. ويبدأ بتوجيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة ; وإعلان خوفه - وهو النبي المرسل - من عاقبة الانحراف عنها، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه، وتركهم هم إلى منهجهم وطريقهم. وبيان عاقبة هذا الطريق وذاك، يوم يكون الحساب.

(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين  وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)..

وهذا الإعلان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه مأمور أن يعبد الله وحده، ويخلص له الدين وحده، وأن يكون بهذا أول المسلمين، وأنه يخاف عذاب يوم عظيم إن هو عصى ربه.. هذا الإعلان ذو قيمة كبرى في تجريد عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام. فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا المقام هو عبد لله. هذا مقامه لا يتعداه. وفي مقام العبادة يقف العبيد كلهم صفاً، وترتفع ذات الله سبحانه متفردة فوق جميع العباد.. وهذا هو المراد.

وعند ذلك يقر معنى الألوهية، ومعنى العبودية، ويتميزان، فلا يختلطان ولا يشتبهان، وتتجرد صفة الوحدانية لله سبحانه بلا شريك ولا شبيه. وحين يقف محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مقام العبودية لله وحده يعلن هذا الإعلان، ويخاف هذا الخوف من العصيان، فليس هنالك مجال لدعوى شفاعة الأصنام أو الملائكة بعبادتهم من دون الله أو مع الله بحال من الأحوال.

ومرة أخرى يكرر الإعلان مع الإصرار على الطريق، وترك المشركين لطريقهم ونهايته الأليمة:

(قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه. قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين).

مرة أخرى يعلن: إنني ماض في طريقي. أخص الله بالعبادة، وأخلص له الدينونة. فأما أنتم فامضوا في الطريق التي تريدون، واعبدوا ما شئتم من دونه. ولكن هنالك الخسران الذي ما بعده خسران. خسران النفس التي تنتهي إلى جهنم. وخسران الأهل سواء كانوا مؤمنين أم كافرين. فإن كانوا مؤمنين فقد خسرهم المشركون لأن هؤلاء إلى طريق وهؤلاء إلى طريق. وإن كانوا مشركين مثلهم فكلهم خسر نفسه بالجحيم.. (ألا ذلك هو الخسران المبين). (انتهى كلام صاحب الظلال)  

هي لله، لا لسواه، سُئل التستري أي شيء أشد على النفس؟

قال: «الإخلاص؛ لأنها ليس لها فيه نصيب».

فالكيّس من كان يقظًا لقلبه، ومحاسبًا لنفسه، وحريصا على حُسن قصده.

ونقف أمام هذه المعاني والدروس:

– أمر بالإخلاص التام لله تبارك وتعالى.

– وأمر بتمثل القدوة، فلا يخالف القول الفعل، وأن من يدعو الناس إلى الله لابد أن يتقدمهم إلى مولاه.

– وفيها حث على إستشعار شرف العبودية لله تبارك وتعالي (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ)، وشرف أنك مخلصاًٍ لربك لا تشرك معه أحد من خلقه في صغير الأمر وكبيره.

– وفيها تنزيه وتبرئة للنفس من هؤلاء الذين سقطوا في براثن عبادة غير الله (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ)، وفيها استعلاء بالعبودية الحقة عن هؤلاء الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.

– وفيها حث على خشية الله والخوف من معصيته وعذابه.

– وفيها بيان بأن الخاسر الحقيقي من أشرك بالله، وعبد غير الله، ولم يُخلص لله.

والخاسر من ضيع عمله وبدد جهده بسوء نيته وفساد قصده. ورحم الله من قال: «في إخلاصك خلاصك».

اللهم أذق قلوبنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ، اللهم أحيها بالإخلاص وأسعدها باليقين. واجعلنا مخلصين لك الدين، حتى لا نرجو غيرك ولا نعبد أحداً سواك، اللهم أخلص نياتنا، وطهر أعمالنا، وأصرف عنا كيد أنفسنا، ونجنا من الهوى المُضل، والرياء المُذل. يارب العالمين.